البلطجة أشكال وألوان…

هبت رياح وعواصف عاتية لم يرضها، هذه المرة، اقتلاع الأشجار والمباني وكل ما يصادفها في طريقها؛ بل تاقت بأمر من ربها إلى اقتلاع عروش الطغاة بعدما تغطرسوا وتجبروا على شعوبهم، و عاثوا في الأرض فسادا. فكان ما كان من أمر المنان بعدما قال له كن فكان.
ومع هذه الرياح التغيرية المباركة أنضاف إلى قاموس الطغاة، عبارة اشتهرت بعدما استخدموها كورقة أخيرة تنقذ ماء الوجه، فكانت أخر مسمار تدق به نعشها إلى مثواها الأخير. بئس المثوى وبئس المصير.
إنها كلمة “البلطجة” و”البلطجية”، وتعني بالعامية المصرية فئة مذمومة من الناس ذوو سلوكيات عدائية غير مقبولة اجتماعيا، قائمة على منطق القوة والنهب والسلب، استخدمها حسني مبارك ضد ثورة شعبه قبيل احتضاره السياسي فعجلت له بالوفاة.
تلك كانت بلطجة ساذجة ومكشوفة سرعان ما صدها الشرفاء من الناس فردوها على أعقابها خاسرة. إلا أن هناك بلطجة على مستوى عالي من التخطيط والبرمجة، والدراسات الممنهجة…”بلطجة ” سياسات كبرى… بلطجة أنظمة فريدة… قررت أن تجعل من شعوبها قطيعا يأتمر لأمرها و ينتهي لنهيها، لتضمن له “الأمن” و”الاستقرار” المزعومين، فلا مشاكل ولا نزاعات ولا احتجاجات ولا مظاهرات.
إن سياسة تخدير شبابنا عبر قنوات الإفساد الخلقي من نشر للدعارة المنظمة وتشجيع اللواط والترخيص لإمبراطوريات الحشيش وتجنيد آلة الإعلام الفتاكة والمهرجانات لنشر كل الأفكار المسمومة التي تلوث عقول وقلوب أبنائنا وتقودهم إلى الانتحار الأخلاقي…لهو “بلطجة” ممنهجة بعيدة المدى.
أما حين تستأثر فئة صغيرة ولئيمة بمأدبة كبرى قوامها صفقات وشركات وأموال في بنوك أوربية وعقارات وقصور ومساكن فاخرة وأجور خيالية و و و… وترمي الفتات لمن تتحكم في أرزاقهم بدون وجه حق فذاك منطق البلطجة المسموح به في أنظمة الجبر والعض.
وعندما تنفرد نخبة معينة بالحكم وتعطي لنفسها بالدستور والتشريع كل الصلاحيات والسلطات لتأمر وتنهي وتعين وتفصل وتشرع وتعزل كما تشاء… وتسلب الرعية من كل الصلاحيات إلا من قول نعم و” العام زين”، فتلك بلطجة مخزنية مخزية من إبداع الأنظمة العربية ولاغير. وكما لا ننسى “البلطجة” الفكرية… فكل فكر وضيع لا يحترم هوية أمة أو أخلاقها أو دينها أو كرامتها أو يشوه تاريخها وحضارتها ويفسد العقول لعقود ممتدة في التاريخ… فذاك فكر حري به أن يصنف بالمجرم في حق تلك الأمم.
أما عندما تمنع بيوت الله من أن يذكر فيها اسمه، وهي التي كانت منطلق الإشعاع الحضاري الإسلامي، ومنها انطلقت العلوم لتنير بوهيجها العالم، ومنها تحررت إرادات المجتمع بكل شرائحه، رجاله ونسائه، شيبه وشبابه، وكانت منتدى الرأي والرأي الآخر دون حرج أو خوف، وفيها كان ينظر في الخلافات الكبرى الفقهية والسياسية وفيه تؤخذ القرارات المصيرية للأمة. فأصبح اليوم بوقا للسلاطين … ومنبرا يقوده علماء البلاط المارقين ليصدوا عن سبيل الله، فتلك أرقى البلطجات على الإطلاق.
بلطجات على جميع المستويات مارستها الأنظمة العربية بشكل منظم وحسب منهجية موحدة ليبقى الاستبداد هو العنوان الكبير لهذه الأنظمة الفاسدة.
وإلى عهد جد قريب ظنت هذه الأنظمة أن شعوبها لازالت تغط في سباتها العميق… ليتفا جئ الجميع بيقظتها كالطوفان يجرفهم واحدا تلو الآخر إلى مزبلة التاريخ… فيا ترى على من تدور الدائرة…؟؟؟