ألا فلـيمض زمن الغثائية

أضحك معمر القذافي العالم بغرابة تفكيره وشذوذ سلوكه المنفلت عن جادة الصواب. واختلافه عن كل ما اتفق عليه الناس في كل شيء حتى اتفق الجميع على نعته بلقب المعتوه…تحفة بشرية لا ثاني لها في صنف البشر. والاستثناء وارد في كل الأحوال..
لكن الغريب الذي استوقف فكري المتواضع هو كيف لهذه الحالة الفريدة أن ترقى بهذه المواصفات إلى أن تعتلي قمة هرم الحكم ويصبح رئيسا يحكم قبضته على شعبه و لمدة تتجاوز الأربعين سنة… شعب خط بدمائه الزكية صفحات منيرة ما زالت تتلألأ في كتاب التاريخ…
لم أجد الجواب إلا في حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال:“توشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. قالوا أو من قلة نحن يومئذ يا رسول الله قال: بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل. ولينزعن الله من قلوب عدوكم المهابة منكم وليقذفن في قلوبكم الوهن. قالوا وما الوهن يا رسول الله، قال حب الدنيا وكراهية الموت”صدقت يا رسول الله.. إنها الغثائية وحب الحياة حتى لو كانت حياة الذل والمهانة…
فما عاشته أمتنا من وهن لا شك له أسباب تاريخية سطرها الحكام ببطشهم وجورهم الذي لم يسلم منه حتي الفقهاء والعلماء عندما رفضوا الإذعان لأهوائهم والفتوى بما يرغبون… وقضية “طلاق المكره” شاهدة على غطرسة الحكام، الذين أرعبوا الناس وسلطوا سيف البطش على أعناقهم.
ثم إن حياة الدعة التي تسربت إلى المجتمع الإسلامي بتخالط الأجناس والأنساب وانتشار الملاهي والخمارات وتراجع دور المسجد في رفع جذوة الإيمان قد ساهم إلى حد كبير في ارتباط النفوس بكل ما هو دنيوي وركونهم إلى المتع. وهكذا انتقضت آخر عروة من عرى الإسلام وهي الصلاة بعد انتقاض عروة الحكم. وتراجعه القهقرى بعد الحكم الراشدي العادل. وتلك كانت النكسة الأولى التي أصابت المجتمع الإسلامي.
ثم بعد أن استوت القصعة الإسلامية لآكليها و نضجت، انقضت عليها الأمم . فكانت نكسة الاستعمار التي لم تغز الديار فقط بل استوطنت حياة المسلمين وعقولهم ودماءهم، وفرخت بينهم جيلا يدين بنحلة الغالب يفكر بعقله. و يمرر مخططاته الساعية إلى طمس الهوية الإسلامية فعاش هذا الجيل زمانا يحارب الرجعية الإسلامية حسب وصفه. ويدعو إلى النموذج الغربي المتحضر. فسيطر هذا الفكر مدة على المناهج التعليمية والمنابر الإعلامية… و لا يزال.
و لكن ولأن وعد الله حق فقد كتب الله لهذه الأمة أن تحيى بعد موات و تنتفض بعد طول سبات. فظهر جيل من بين الحطام أدهش العالم. جيل ينشد التغيير والتجديد. جيل يرمي بردعة الخوف والسكوت عن الحق التي طالما ألبسها الحكام لسلفه وأجداده… جيل يفضل الموت بكرامة عوض حياة الذل والاستكانة… جيل وعى أنه لا سبيل لأن يتنصل من هويته ودينه حتى يصنع التغيير. وما جماعات ميدان التحرير المليونية عنا ببعيدة.
جيل قال بلغة الفعل لا بلغة اللسان: ألا فليمض زمن الغثائية..