الاستبداد ملة واحدة

يقولون إنهم سئموا السلطة وقد مكثوا بها عقودا ويستميتون اليوم للبقاء فيها بكل ما أوتوا من قوة وقد أصموا آذانهم عن المطالب المشروعة في الديمقراطية الحقة والحرية الحقة، وعمُوا عن حقيقة التردي والانحدار الذي تسجله القضايا الوطنية بل واستغشوا ثيابهم وأداروا ظهورهم لكل ذلك!
لطالما أشاروا إلى “رعاياهم” بإشارات الود والمحبة لكن تبين أنه حب الأفاعي التي تنفث سُمّها مع أول ضربة كلما تعلق الأمر ب بالتغيير فلا تراهم إلا موزعين “العطايا” من الإقامة الجبرية إلى الزج في غياهب السجون مرورا بالتفنن في أنواع التعذيب والترهيب!
يقولون أنهم لم يكونوا طلاب سلطة وهم قد باعوا أوطانهم وخيراتها واستباحوا رقاب شرفائها لا لشيء إلا حبا في الحكم والصولة والصولجان. فلما استنكرت الشعوب استبدادهم بالحكم وجاهرتهم العصيان، بثوا بينها الفتنة وجعلوها شيعا يأكل بعضها بعضا بل إن منهم من تفنن في القمع والزجر والتقتيل البشع والتمويه والتعتيم.
لا ينفكون يرددون على مسامع الشعوب أن “حب الأوطان من الإيمان” وهم لا أمان لهم ولا عهد لهم: فقد أحرق العديد منهم هذه الأوطان بمجرد أن أيقن أن حبل الثورة الجارف قد التوى على رقبته وأن الجماهير الغاضبة لم تعد تنطلي عليها الأكاذيب والتسويفات فلم تعد تؤمن بأن الوطن مجرد ” نشيد وعلم”
يعيد المستبدون االمطالبة لكرَّة طمعا في السلطة مرة أخرى لعدم قدرتهم على الانفطام منها مثلما فعل “نيرون” حين أحرق روما وجلس يستمتع بذلك وهو يردد أشعار “هوميروس” ويستعيد شريط أحداث “طروادة”، ففي عرفهم إما أن يظلوا جاثمين على صدور شعوبهم قهرا وتفقيرا وتجويعا وإما أن يبيدوهم عن بكرة أبيهم.
ألا ترى معي عزيزي القارئ أن جنون الاستبداد يشبه إلى حد بعيد هذه النزعة ” النيرونية” المرضية المتمركزة حول ذاتها؟ ألا يعني ذلك أنها نزعة تحمل في جيناتها بذور أفولها ودمارها مهما طال بها الزمن ومهما اشتدت قبضتها الحديدية؟ فتأتي الثورات الشعبية تتويجا لهذا الأفول لتدق آخر مسمار في نعش الأنظمة المستبدة؟
ليتهم اختاروا “زواج النحب” في طلب وُدِّ شعوبهم ليرحلوا هم كما في الأسطورة العالمية، حيث يختار العاشق الموت ردا على رفض محبوبته له، ليتهم يتنحون ويحفظوا ما بقي من ماء وجوههم بعد أن لفظهم الصغير قبل الكبير وبعد أن صيروا الأطفال يتامى والنساء ثكالى ولم يوقروا كبيرا ولا رحموا صغيرا… فأي حبل ود يرتجون وأية شعوب يحكمون، أفلا يعلم هؤلاء الطغاة أن المُلك لله تعالى وحده يهبه لمن يشاء وينزعه ممن يشاء؟
وكفى بالمرء استصغارا ومذلة أن يعاند ويمانع حين تقذف في وجهه اللاءات!