دروس قرطاج

إذا استثنينا التخوف القائم لدى كل المهتمين -وهو تخوف مشروع- من سرقة تضحيات الشعب التونسي الشقيق والتسلق عليها في جنح الظلام، فإنه يمكننا الفرح -وهو فرح مشروع كذلك- بإنجاز هذا الشعب العظيم الذي بفضل تضحياته بزغ صبح تونس بعد ليل طويل حالك السواد، صبح تنسم أهل القيروان عبق أريجه وحق لهم أن يتنعموا بعبق نسماته، بعد أن أربكوا حسابات خاطئة ظنت أن لا قائمة تقوم لشعب طال صمته، فإذا بالصمت ينقلب بركانا غاضبا، يعصف أول ما يعصف برأس الظلم والقبح والشين، ثم بصنائعه الذين أوغلوا في إهانة من أودعوهم ثقتهم وأماناتهم فقابلوا الثقة بالخيانة وواجهوا الإحسان بالإساءة. وإن كل من يهمه الأمر ليجد في أحداث تونس ما ينير بصيرته ومنهم:
الشعوب المستخف بها:
إن الانتفاضة المباركة للشعب التونسي -رغم خصوصيتها وقياسيتها بكل المعايير- ليست أمرا مستحيلا على غيره من الشعوب المقهورة والمستضعفة متى استكملت العناصر المطلوبة للقيام ضد الظلم والاستبداد خاصة إذا زكمت رائحته الأنوف، وهي لا شك قد بلغت ذلك المبلغ في وطننا العربي أقصد في سجننا العربي، وانتبهت أي الشعوب إلى مرض القابلية والاستعداد الكامن في نفوسها والذي يغري بها الظالم أكثر مما تغريه قوته وسطوته. ولا شك سيباركها الله تبارك وتعالى الذي مقت الظلم، وجعل العدل أساس الملك، قال عز وجل:ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون 3 .
الأنظمة العربية المستبدة:
تكاد انتفاضة تونس تسمع من به صمم من أنظمتنا المتمترسة بالغرب، أن أفيقوا من سباتكم وانتبهوا من رقادكم فما عاد سقف بيتكم حديدا ولا بات ركن بيتكم حجرا. فها هو رأس الظلم في تونس لما لجأ إلى من كان يعتقد فيه المنعة والحمى إذ بهذا الأخير يتنكر له وسرعان ما نسي القرابين التي قدمها على أعتابه (من ذبح للحريات وانتهاك للحرمات ومنع لبيوت الله أن يذكر فيها اسمه وسعي في خرابها وتشريد لأهلها ووو) فمثلهماكَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ 4 وما مثال الشاه منا ببعيد إذ تنكرت له أمريكاه التي كان لها عبدا مأمورا فإذا بها ترفض مجرد استقباله لما لفظه شعبه، ولكن يأبى التاريخ إلا أن يعيد نفسه مع من لا يتعظ ولا يقرأ كتاب التاريخ بنظارة أصالته وخصوصيته أو على الأقل مصالحه الحقيقية التي هي بلا شك مع ذويه وعشيرته -الذات- مهما بلغ الاختلاف، وليست حتما مع الآخر بأي وجه من الوجوه.
الاستكبار الغربي:
إن انتفاضة تونس ستجعل الغرب بلا ريب يعيد ترتيب أوراقه بناء على المعطيات الجديدة، فهو لا يفوت كعادته دائما فرصة للدراسة واستخلاص العبر، من أجل تغيير التكتيك واستبدال البيادق المهترئة على رقعة الشطرنج القديمة، فما عادت شعارات أمثال الإرهاب والأصولية والملثمين القادمين من عصور الظلامية والرجعية وامتلاك أسلحة محظورة دوليا تضمن استحكام قبضته على الشعوب النامية. فهاهي الانتفاضة شعبية بامتياز، شبابية مثقفة أو على الأقل متعلمة تجيد استخدام السلطة الخامسة – المعلوماتية– رغم التدجين والتجهيل والتجويع المسلط على الرقاب من طرف الوكلاء المخلصين مقابل ما يسوقه إليهم من أوهام، وربما تجود قريحته – أي الغرب- قريبا بشعارات أخرى يحاول بها تدارك ما فات فهل من معتبر؟.
وبعد فإن ما يلفت الانتباه في هذه الانتفاضة المباركة هو ما تنقله وسائل الإعلام اليوم بعد تحرر رقبتها، من صور حية ومباشرة لحشود المصلين وهي تملأ بيوت الله عن آخرها ما يؤشر على سلامة الفطرة لدى الأمة مهما تكالبت عليها قوى الاستبداد والتمييع لمسخ هويتها وطمس إيمانها ولكن الله غالب على أمره ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.