العربة

عذرا أيها القارئ الكريم، قد يجول في مخيلتك أسئلة عديدة حول العربة التي أشاركك اليوم استقراء معالمها، ذلك أنه ليست كل العربات تحظى بالاهتمام، اللهم إذا كانت من صنف العربات الملكية الفاخرة المدججة بأحسن الجياد والمرصعة بأغلى وأنفس الجواهر والتي تتحرك بزهو وسط الجماهير أثناء الاحتفالات الرسمية!
حديثنا اليوم هو عن العربة التي جرت نظام حكم فاسد جبري من برجه العاجي فأردته أرضا، لينكشف وجهه الموصوم بالظلم وبفضائح الاستبداد لكل العالم، عربة أحيى صاحبها قلوبا لطالما ناءت بأحمال هذا النظام الجائر الذي جثم على أنفاسها لسنين عديدة، عربة أعادت العزة لشعب مستضعف، فهب ينتصر للكرامة والعدل وإحقاق الحقوق وينشد الحرية التي أقر دستورها الشاعر التونسي، أبو القاسم الشابي: إذا الشعب يوما أراد الحياة***فلا بد أن يستجيب القدر
ولا بد لليل أن ينجلي***ولا بد للقيد أن ينكسر
إنها عربة محمد البوعزيزي الذي أوصله الاستبداد والجور إلى الطريق المسدود فأحرق نفسه، إنها عربة البوعزيزي الذي أنشأ على ظهرها منصبا للشهادة الجامعية التي حصل عليها لمواجهة متطلبات الحياة اليومية وإعالة أسرته حينما تنكر له النظام، فعز الوظيف وشق العيش وتكاثرت الأعباء والتكاليف، في الوقت الذي كان النظام وحاشيته يعيثون فسادا وغنى فاحشا في أموال البلاد وخيراتها: مشاريع بالملايير وأرصدة عقارية وحسابات بالبنوك الأجنبية…إلخ لكن لم يكن هذا النظام يخصص أي رصيد أو ميزانية تستجيب لمطالب الشباب الجامعي المعطل أمثال البوعزيزي الراحل، بل إنه على النقيض من ذلك كان زبانيته يرهقون العربة وصاحبها برسوم وغرامات جزائية علها تملأ الصناديق التي نهبوا خيراتها!
لم يكن صاحب ثورة الياسمين يملك سوى عربة لبيع الخضر والفواكه ومعها كثير من الشهامة والكرامة لكسب قوت يومه، كما لم يكن يدرك أنه بإضرام النار في جسده قد أحرق معه صفحة كبيسة ومحزنة من تاريخ بلده تونس، فقد أحرق الاستبداد وأذنابه وفتح الباب على مصراعيه للتغيير الذي كان ينشده أبناء شعبه.
فلما سنحت الفرصة لإزاحة النظام الفاسد، كسروا قيود الخوف وألقوا عنهم أغلال المهانة، بل إنهم سفهوا أحلام ومكائد الطاغية الذي حاول أن يقايض الانتفاضة بالخبز والماء ونزر قليل من الحريات في محاولة لإنقاذ نظامه الأخطبوطي لكن عجلات عربة البوعزيزي كانت قد داسته!
لقد أصبحت عربة البوعزيزي رمزا لقاطرة الحرية والكرامة والتي ستعبر حتما كل الشعوب التواقة للإنعتاق، عربة قيل أن جهات خليجية عرضت على أسرة البوعزيزي شراءها بمبلغ مالي هام لكن الأسرة رفضت بيعها لأنها أضحت رمزا غيَّر مجرى تاريخ تونس.
لا غرو، فرموز الحرية والكرامة الحقة وكل القيم النبيلة لا ثمن لها وإن كانت مجرد عربة لبيع الخضر والفواكه!