أثر الظلم في خراب العمران

كلام حكيم لمحلل و فيلسوف حكيم ..إنه مغاربي ولا فخر..إنه عبد الرحمان ابن خلدون المغربي التونسي الأندلسي ..صاحب علم الاجتماع والعمران البشري الذي حنكته التجارب السياسية فهو سليل القصور تقلب فيها عدة مناصب سياسية في عهد الموحدين، خصص فصلا مستقلا لهذا الموضوع الفصل الثالث والأربعون سماه: ” الظلم مؤذن بخراب العمران”. شدني هذا العنوان لما له من علاقة بالأحداث التي تعيشها الشعوب المقهورة.. وخاصة شعب تونس القائم ضد الظلم المكسر لقيد الهزيمة النفسية التي كتمت أنفاسه ربع قرن من الزمان.
يربط ابن خلدون العمران بالإرادة البشرية، والعمران يرتبط بالسعي في المصالح فنجده في كتاب المقدمة يقول:وعلى قدر الاعتداء ونسبيته يكون انقباض الرعايا عن السعي في الاكتساب، فإذا كان الاعتداء كثيرا عاما في جميع أبواب المعاش كان القعود عن الكسب كذلك لذهابه بالآمال.. وإن كان الاعتداء يسيرا كان الانقباض عن الكسب على نسبته) 5 ، ومقتضى الظلم عند ابن خلدون هو الهزيمة النفسية التي تلازم الإنسان وكل أنواع المعوقات والمثبطات التي تضعف نفسيته وتقف أمام عطائه وتضحيته وهذا ما يمكننا أن نطلق عليه اللامسؤولية والهروب من الميدان.
الظلم إذا خراب وقفار وذئاب تعوي والوادي مقفر مظلم. الظلم ظلمات يوم القيامة وظلمات في الدنيا فكيف يسعى بها للكسب وعمارة الأرض والأرض هرج ومرج.
وترجع أهمية نظرية ابن خلدون للظلم أنه لا ينظر إلى الظلم تلك النظرة التجزيئية التقزيمية إنما الظلم الذي يؤثر على الدورة العمرانية وهي دورة متكاملة تبتدئ بالإنسان وتنتهي بالحضارة والعمران وهو ما يسميه بالدورة الحضارية أي الارتباط الكامل بين السلطة والرجال والمال والعمارة والعدل. ويلخص ابن خلدون الظلم في مقدمته بقوله:وكل من أخد ملك أحد أو أغصبه في عمل أو طالبه بغير حق أو فرض عليه حقا لم يفرضه الشرع فقد ظلمه) 6 .
المانعون لحقوق الناس ظلمة.
جباة الأموال بغير حقها ظلمة.
غصاب الأملاك على العموم ظلمة.
ويدخل ضمن الظلم أيضا اغتصاب قيمة العمل، فإذا انتقص حقهم فيه بطل كسبهم ودخل عليهم الضرر الكبير بسب ذلك: فإن الرعية المعتملين في العمارة إنما معاشهم ومكاسبهم من اعتمال ذلك، فإذا كلفوا العمل في غير شأنهم واتخذوا سخريا في معاشهم بطل كسبهم، واغتصبوا قيمة عملهم ذلك، وهو متحولهم، فدخل عليهم الضرر، وذهب لهم حظ كبير من معاشهم في الجملة.) 7 الظلم رمز للظلام والظلام رمز لليل وليس النهار ولكن الله عزت قدرته، يقدر العبادة في الليل والعبادة في النهار، يقدر العبادة في الظلام والظلم و العبادة في النور والعدل والحرية والكرامة الإنسانية.
ولعل كسر أغلال الظلم والقيام في وجهه المستبد عبادة واليقظة في العدل وتصويب الزيغ عبادة، حتى لا تصير مدنها وقراها مهرا من البوم الذكر لأنثاه كما ذكر ابن خلدون في قصة للمسعودي في أخبار الفرس، أيام بهرام بن بهرام عندما عرف الظلم تعريضا لا تصريحا مبينا له أثره على الدولة عن طريق ضرب المثال على لسان البوم، عندما سمع الملك أصواتها وسأله عن فهم كلامها:فقال له: إن بوما ذكرا يروم نكاح بوم أنثى، وإنها شرطت عليه عشرين قرية من الخراب في أيام “بهرام” فقبل البوم شرطها وقال لها: إذا دامت أيام الملك أقطعتك ألف قرية وهذا أسهل مرام. وعندئذ تنبه الملك الى ملاحظة الموبدان وخلا به وسأله عن مراده فقال له: أيها الملك، إن الملك لا يتم غره إلا بالشريعة، والقيام لله بطاعته،والتصرف تحت أمره ونهيه، ولا قوام للشريعة إلا بالملك، ولا سبيل للعمارة إلا بالعدل، والعدل الميزان المنصوب بين الخليقة، نصبه الرب وجعل له قيما، وهو الملك، وأنت أيها الملك عمدت إلى الضياع فانتزعتها من أربابها …
في ختام القصة: لم ينتفض الشعب بعد إنما هي قومة العالم للتغيير ولم يهرب الملك متخليا عن مسؤوليته إنما قام وأقبل على النظر في ملكه) 8 .
أليس العدل أساس الملك؟!!
اليس الظلم مؤذن بخراب العمران؟!!
وقبل وبعد العمران ..أليس الظلم مؤذن بخراب الإنسان؟!!
[2] مقدمة ابن خلدون ص510
[3] مقدمة ابن خلدون ص512
[4] مقدمة ابن خلدون ص508
[5] مقدمة ابن خلدون ص507
[6] مقدمة ابن خلدون ص510
[7] مقدمة ابن خلدون ص512
[8] مقدمة ابن خلدون ص508