نهاية الإحساس: خواطر حول رحلة الحج

وأنا أطوف في زيارة صديقاتي ومعارفي العائدين من رحلة الحج المباركة، بعدما لم يكتب لي مرة أخرى أن أكون ضمن حجاج هذا العام أيضا، كنت أنصت للجميع بآذان سمعي وقلبي وعقلي، فبدت لي مفارقات كبرى بين شهادات الحجيج: إذ سمعت من لا يتحدث إلا عن عناء السفر وظروف النظافة والمأكل والمشرب، لا يزيد عن ذلك، وقد يتفضل البعض بنصائح وإرشادات كثيرة حول التجهيزات الضرورية للسفر، والتأكيد على ضرورة قرب الإقامة للتخفيف من عناء التنقل… حتى زرت صديقتي المرهفة الإحساس، عند عودتها من الرحلة الميمونة، فاستفاضت في الحديث كيف فاضت أحاسيسها، حتى سالت أودية بقدرها لتروي غليلي وتبرد شوقي. حدثتني كيف حملها الشوق قبل رحلة الحج، وألهب مقلتيها لرؤية البيت المعظم واقعا بعدما فاضت عيناها بالعبرات، وهي ترنو إليه على شاشة التلفاز،كانت تتوقع أن إحساسا عظيما سينفجر بداخلها، وهي تلقي نظرتها الأولى إلى الكعبة المشرفة، فإذا بها، بعدما طوت المسافات الطويلة، تقف مذهولة مصدومة حين هربت منها جميع الأحاسيس الصغيرة منها والكبيرة. لم تنسكب دموعها خشوعا أمام هذا البناء العظيم، وهي تراه رأي العين، أكبر وأضخم بكثير مما شهدت على الشاشة الصغيرة، ولم تسقط مغشيا عليها من الرهبة أمام هذه الآية الربانية العظمى، لم تحس بفرح اللقاء، ولا بخوف الفراق، لكنها أحست بفراغ وخواء داخلها وعراء، وكأنما أحدثت هذه النظرة ثقبا غائرا في قلبها، فلم يعد ينبض بأي إحساس، أو كأنه توقف فجأة عن الخفقان، بدون سابق إنذار، و بدون إحساس سابق ولا لاحق. لقد سمتها صديقتي الصدمة، كتلك التي استشعرتها وهي تنظر إلى ابنتها الصغيرة تصاب بنوبة صرع مفاجئة أمامها، دون أن تقوم بأدنى حركة لإسعافها أو تهدئتها وهي طالما تدربت على مثل هذه التدابير. إنها الصدمة التي تجفف الدموع ، وتشل الحركة، وتبدد المشاعر كلها، كلما تعلق الأمر بموقف عظيم كموقف صديقتي أمام البيت المعظم في الأرض وفي السماء، لم تشعر في تلك اللحظة إلا أنها تريد فقط أن تبقى واقفة تنظر إلى هذه الصورة الجليلة أمامها بلا نهاية، كصدمتها… كانت تحس بقلبها يدق إلى نهاية طاقته، كأنه يبحث في داخله عن الأحاسيس المناسبة للموقف، دون أن يجدها، أو يميزها، فأخذ يطرد جميع المشاعر من داخله بذهول، كيف لا يملك أن يستوعب عظمة الموقف، فلم يستطع أخيرا أن يحضن صورة الكعبة المشرفة أمامه إلا بفراغه الكبير، وذهوله البليغ، في نهاية أحاسيسه. في نهاية الإحساس، حين أفرغ قلبها المسكين من كل شيء، لم تعد صديقتي تسمع شيئا حولها، ولا ترى هذه الأجسام التي تدفعها، وتتدافع طائفة بالبيت الحرام، توقفت في ذاكرتها عقارب الساعة والزمان، فلم تعد تعرف تاريخ الأيام ولا أسماءها وساعاتها، كأن ذاكرتها أصيبت هي أيضا بخرم غائر، حتى ابنتاها الصغيرتان لم تخطرا على قلبها في تلك اللحظات، بل إنها حاولت مرات ومرات أن تتذكر ملامح الصغيرة بدون جدوى. انسابت عبرات خفيفة من عيني صديقتي أحسست بها ملتهبة من حر الشوق، وهي تسترسل في حديثها : الشيء الوحيد الذي تذكرته في تلك اللحظة، وظللت أذكره بقوة، هو أنني في رحلة الحج، وما الحج؟؟ لقد وقفت مشدوهة، مصدومة، مذهولة، لحظات وأنا أحاول استرجاع الأدعية والمناسك والأذكار التي علي ترديدها في هذا المكان أو ذاك، وأنا التي طالما قد حفظتها عن ظهر قلب، لكنني في تلك اللحظات، كنت أعصرها قطرات من ذاكرتي الممسوحة. كنت أنصت لصديقتي بجهد كبير، وأنا أحاول أن أستشف من تعابير وجهها ما عزت عن إيصاله الكلمات، وربما تكون هي أيضا قد لمحت تأثري الشديد بكلامها، فلملمت دموعها الساخنة، وهي ربما تسترجع مشهدا آخر من المشاهد ، واسترسلت بابتسامة واسعة: لا يمكن أن تتصوري أيتها الحبيبة كم من المشاعر اجتمعت في قلبي في نفس اللحظة، بقدر ما أحسست بالضعف والصغار والهوان أمام عظمة هذا المقام، بقدر ما كان يساورني شعور عميق بالعزة والفخر بقوة الإسلام، إن هذه المساحة الواسعة التي لا تفرغ صباح مساء من آلاف المسلمين المتقاطرين عليها من كل بقاع العالم، من جميع الأجناس والطبقات، تاركين كل المشاغل والأهالي والأبناء والأحباب، متحملين كل تكاليف الرحلة وأتعابها، لأعظم دليل أن الإسلام لم ولن يضعف يوما أمام أية قوة مهما كانت.