أطفال السلام

دخلت كعادتي من باب المؤسسة ليثير انتباهي منظر التلاميذ… إنهم في أزهى الألوان وأبهى الحلل، إنها الطفولة ترتدي زيها التقليدي الأخاذ، تعلو وجهها البسمة الرائعة وتحمل بأيديها الصغيرة ورودا تحزمها أشرطة ذهبية ملونة. تساءلت ما الخبر؟ فأعلموني بصوت واحد: ” سنة هجرية سعيدة يا مدرّستنا وكل عام وأنت بألف خير”.
كان بريق أعينهم يفصح عن خبايا وأسرار عديدة، تحاكاها عقلة وحكماء الزمان غير ما مرة حتى علاها غبار النسيان، لطالما أهملنا الوقوف عند هذا الحدث العظيم من جراء الطمس الاستعماري الذي استقر بعقول المسلمين والذي عمل على تلميع الاحتفال بالسنوات الميلادية عوض الهجرية. ولطالما تساءلنا ما دواعي الإهمال الذي طال كل ما يرسخ هويتنا المسلمة؟ وقلنا في حسرة متى يحل زمان نقف فيه عند كل عام هجري وقوف ترسيخ لمبادئنا ونحتفل بانتصارات العصر الذهبي آخذين منه أرقى العظات وأسمى العبر؟ ليترجم أطفالنا رغباتنا واقعية بعفويتهم وبطريقتهم الخاصة، فتجري أجسامهم الصغيرة بخفة نحو الأقسام الدراسية لتعدها وتزينها بزينة الاحتفال، مسجلة على ألواحها بعفوية سنة هجرية سعيدة… كانت الفرحة تزداد وتنمو بداخلهم لتعلو محياهم وهم يتعاونون ويطلبون مساعدة بعضهم لتهيئة المكان ويتبادلون العبارات والضحكات ببراءة وعفوية تذكّر بفرحة وعفوية أطفال استقبلوا الرسول صلى الله عليه وسلم عند حلوله بالمدينة المنورة. إنها براءة الطفولة تستقبل حلول هذه السنة بالسعادة والبشر… لكم بدا اتحادهم والتحامهم واضحا ليجعلوا القسم في أبهى الحلل، وبعدها مباشرة أخرج أحمد الكؤوس وفتحت زينب علب الحلويات ورتبت سناء الصحون والمناديل والملاعق ووضع علي المشروبات و…وقفت أنظر إلى حركاتهم الخفيفة وسعادتهم العارمة، فقد كانت الحيوية تعم المكان.
…وفجأة لمحت قدوم ياسر يصرخ بجنون تبلل ملابسه الفلسطينية الدموع وتلطخها ألوان الحلوى التي ضاعت، فما تبقى منها غير علبتها بين يديه، جرى الجميع نحوه مرددا: “ما خطبك يا ياسر من اعتدى عليك؟” فأجاب صارخا: “أغيثوني يا إخواني، لقد وصلتني رسالة تقول أن المأساة تعصف بغزة وأن عدد الشهداء ارتفع إلى… من بينهم أخي عمار وصديقي سليمان أما عدد الجرحى فإنه يفوق التصور والخيال…” سكن المكان واستحال الفرح إلى أحزان تسكن الأعماق وسارت العبرات تغسل الملامح والأسى يعلو الوجوه الصغيرة، ليدخل الحسين مفزوعا: ” لقد انفجرت سيارة مفخخة ببغداد فقدت على إثرها أبي وأمي و…شجن عظيم أصاب الجميع، كسر ياسر الصمت مرددا: “لا يمكن أن أبقى بعيدا عن وطني سأرحل إلى فلسطين والآن أودعكم لعلي لا أعود إليكم مرة أخرى أو تسمعون عن استشهادي في قناة من القنوات الإخبارية”، فأجابوه: “لا يا ياسر تمهل قليلا فربما نجد حلا ” جلس الصغار يفكرون فقال أحدهم: “ليس لدينا وقت نضيعه، هل سيجدي البكاء والتفكير نفعا؟ ياسر واحد منا والحسين أخونا أيضا وأطفال الأمة الإسلامية كلهم إخواننا كيف يقتّلون ويذبّحون ونحن ننظر إليهم. هل ننتظر الكبار المهملين الذين لا تهمهم إلا مصالحهم الذاتية واستلموا للخوف والخنوع، إنها بداية سنة جديدة يجب أن يعم فيها السلام الأمة جمعاء، يجب أن نتخذ نحن القرار ما دام الكبار عازفون عن ذلك”.
حملوا كل ما أحضروا معهم وخرجوا مسرعين ليصيح ياسر: “لقد وصلنا فلسطين”، أخذ علي الكؤوس وناولها أحمد الذي لفها بالمناديل وقدمها لزينب التي ألصقت بقممها أشرطة علب الحلويات و…، وضعوا اليد في اليد وكلهم شجاعة وقوة وحمل كل واحد كأسه ووقفوا أمام حشد من الجنود ورموا ما بأيديهم ففر الجنود هاربين مخافة أن تنفجر ظانين أنها قنابل متفجرة، ثم أسرعوا للأطفال الجرحى ليضمدوا جراحهم بوريقات شجر اليقطين، وواروا جثمان الشهداء بالتراب، ونزعوا الخوف من قلوب الخائفين الهلعين، وأيقظوا المغمى عليهم برائحة ورق الزيتون، وجلسوا جميعا يحتفلون بالنصر تارة يحزنون وأخرى يضحكون من بلادة الجنود الإسرائيليين وخوفهم من الكؤوس، ثم أجمعوا أمرهم وساروا في طريقهم وقال الحسين: “إننا الآن بالعراق” فجلسوا يتشاورون: ” قد تفيدنا هنا لعبة الغميضة إلا أن عددنا غير كاف، لننادي صديقنا من سوريا وأخانا من الكويت و… نادوهم فأقبلوا جميعا وكلهم شوق للمشاركة في لعبة الغميضة التي ستنقد أطفال الأمة الإسلامية وأسروا العديد من المحتلين الغاشمين وأجبروهم على اللعب معهم وأخذوا في توزيع الأدوار قال الأول :”أنا الشجاعة ” والثاني : “أنا السلام” والثالث: ” أنا المحبة ” والرابع: “أنا الازدهار” والخامس: “أنا الاتحاد” و”…” واختاروا للغاشمين أدوارهم: “أنت الظلم” وأنت: “الاحتلال” وأنت: “الجنون” وأنت: “الحسد” وأنت: “الخوف والخنوع” وأنت “…” صرخ الجنون بأعلى صوته سأعد سأعد فلنبدإ اللعب وقال البقية: “نعم عد وأغمض عينيك لنختفي نحن” واسترسل في العد دون توقف ليختفي الجميع، فوجدت المحبة مكانا لها في قلب الأمة العربية، واستقر الاتحاد بين دولها، وسكنت الشجاعة والإرادة القوية عقولها وعم السلام ديارها فما كان من الازدهار إلا أن نصب نفسه تاجا على رأسها… في حين دك الاحتلال نفسه تحت الأرض، وفر الخوف بركب إسرائيل وظل الحسد والظلم حائرين ولم يجدا لهما مكانا فاختارا أن يتوجها للجنون ليهمسا في أذنه: ” أتريد أن نخبرك بمكان كل واحد منهم؟”. قال الكذب “إن المحبة بقعر البحار” وقال الحسد: ” إنه كاذب أنا أخبرك بمكانها” وأخذا يتبادلان اللوم بصوت عال مما أثار أعصاب الجنون فاقتلع غصن شجرة وغرسه في قلبيهما فلفظا أنفاسهما الأخيرة، وواصل اللعب فسمع هذا الأخير الاحتلال يئن فأخذ يبحث عنه، دون توقف ليكتشف مصدر الأنين قادما من تحت قدميه، أخذ يضحك ويضحك منه يردد بأعلى صوته: ” ضبطتك ضبطتك أحسبت أنه باختفائك تحت الأرض سيستعصي علي إيجادك”، وواصل الضحك دون أن يهتم بطلب الاحتلال النجدة بلغة لم يفهمها، حتى مات قلب الجنون وفقد جسده الحياة. بعد صمت طويل خرج الأطفال فرحين مسرورين يتعانقون ويحتفلون بالانتصار من جديد مرددين: “الحمد لله على وحدة لغتنا وديننا وثقافتنا وتاريخنا الذي سهل علينا الانتصار، ويزيدنا فخرا أنا من خير أمة أخرجت للناس تنشر الخير وتتصدى للظلم وتصد عن المنكر… إننا أطفال السلام” وصاروا يلعبون ويمرحون، وينشرون الأمان في كل أقطار الأمة العربية الإسلامية، ويباركون السنة السعيدة للجميع وخاصة لأصدقائهم وإخوانهم الأطفال مقتسمين معهم ألعابهم وحلواهم وتناقل التاريخ قصة أطفال السلام، فعرفوا في كل الأزمان…
لقد سافرت بمخيلتي بعيدا لأعود على متن صوت طفلة تقبلني:”سنة سعيدة يا مدرستي وكل عام وأنت بألف خير”، وآخر يقول : “أيمكنك أن تقسمي لنا حلوى السنة الجديدة يا أستاذتنا العزيزة؟” فقلت يستحسن أن تلتفوا حولها ويأخذ كل منكم ملعقته وكلوا منها مجتمعين… ورددت في نفسي متى يستفيد الكبار من لعب الصغار، فيكثر تعاطفهم وتعاونهم، ويؤثرون المصالح العامة عن المصالح الذاتية، وتكون أفعالهم أكثر من شعاراتهم، فيكثر بذلك رزقهم وتوفيقهم.