يا جميل الخِلال… ما أعظمك!

اشتاطت الأمة الإسلامية خلال هذه الأيام غضبا وسخطا على الرسوم المسيئة للحبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فنظمت المسيرات والمظاهرات، والوقفات والاحتجاجات التي عكست كلها عمق محبة هذه الأمة لنبيها ومدى تعلقها به عليه أفضل الصلاة والتسليم. هاجت نفوس الآلاف، بل الملايين من المسلمين وضاقت صدورهم، وهم يشاهدون هوان الرسول الكريم على ذوي القلوب الخربة والأرواح الميتة، تألمت الأمة الإسلامية وبكى أبناؤها، وخرجوا في المسيرات، ورددوا الشعارات عسى أن يخفف الصراخ ما بهم. ولكن هذا لم يزدهم إلا حسرة بعد حسرة ولم يستطع إطفاء نار الألم ولهيب المصاب، فلازالت المرارة عالقة في حلوقهم والألم يعتصر قلوبهم.
ولنتوقف هنا،أحبتي وأهلي من المسلمين، يامن برهنتم على صدقكم في محبة نبينا الحبيب صلى الله عليه وسلم، يا من عبرتم عن ولائكم للحبيب ونصرتكم له، نتوقف لنسأل أنفسنا : لماذا يهان الإسلام والمسلمون؟ لماذا تجرأ المغرضون على إهانة النبي الحبيب صلى الله عليه وسلم ؟ ألسنا نتحمل قسطا من المسؤولية ؟ أقمنا بواجبنا كاملا نحو ديننا الحنيف ونبينا الكريم ؟ أعرفنا به حق التعريف حتى تنور القلوب جميعها بحبه، وتضاء العقول بنوره ؟ هل عملنا بسنته واقتدينا به صلى الله عليه وسلم ؟
دعني ادعوك، أخي القارئ، أختي القارئة، إلى مأدبة فياضة من سيرة الحبيب المصطفى العطرة، لنكتشف معا عظمته وقدره.
الرسول الكريم شابا
جمع النبي صلى الله عليه وسلم في نشأته ميزات حسنة وشمائل كريمة. جمع بين الفكر الصائب والنظر السديد، وبين حسن الفطنة وأصالة الفكرة. فكان صلى الله عليه وسلم لا يشرب الخمر ولا يأكل مما ذبح على النصب، ولا يحضر للأصنام موسما. بل كان منذ طفولته نافرا من المعبودات الباطلة، مائلا للعزلة والوحدة، متفكرا في مشاهد الكون ومتأملا فيما وراءها من قوة مبدعة.
وهكذا تميز الرسول الشاب عليه أفضل الصلاة والتسليم عن باقي شباب قومه بشمائل عذبة وخصال حميدة، فكان أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقا، وأعزهم جارا، وألطفهم صحبة، وأصدقهم حديثا، وأعفهم نفسا. كان كما قالت أمنا خديجة رضي الله عنها : “يحمل الكل ويكسي المعدوم، ويقرئ الضيف، ويعين على نوائب الحق” 9
الرسول الكريم زوجا
حب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأزواجه كبيرا ورفقه بهن عظيما، فكان نعم الزوج وخير رفيق. وكانت تصدر من إحداهن رضي الله عنهن أحيانا ما قد يصدر من أي امرأة أخرى فما يغضب أو يؤاخذ، بل يعفو ويسامح.
كان صلى الله عليه وسلم بشوش الوجه، حلو الكلام يهون على زوجاته إن غضبن، ويخفف عنهن إن تعبن، ويواسيهن إن مرضن. وإذا خلا بهن بسط معهن ومازحهن وداعبهن، وكان صلى الله عليه وسلم بهن رفيقا، وفي مراعاة نفسيتهن دقيقا.
وتشهد له أمنا عائشة رضي الله عنها بحسن العشرة والمعاملة. وتصور لنا أروع صورة للزوج العطوف الرحيم بزوجته، الذي يضع يده الشريفة في شؤون البيت ليساعد، فتقول : كان في بيته في مهنة أهله)وعددت بعض مظاهر هذه الخدمة :يحلب شاته، ويرقع ثوبه، ويخصف نعله، ويخدم نفسه، ويقم بيته، ويعقل بعيره، ويعلف ناضحه(جمله)، ويأكل مع الخادم، ويعجن معها، ويأخذ بضاعته إلى السوق) 10 ونجده ذلك الزوج المحب الحنون، يصبر لزوجته أمنا عائشة، وهي شابة تحب اللهو. تاقت نفسها لتتفرج على الحبشة وهم يلعبون في المسجد. فصبر لها حتى ملت وشبعت من الفرجة. وكان صلى الله عليه وسلم يجمع لها من هن في مثل سنها ليلعبن معها. ونجده في مشهد أخر، وهو الرسول القائد ذا المهام الكبرى والمسؤوليات العظمى، يخصص وقتا لزوجته ليصطحبها في نزهة إلى فيافي الصحراء ليسابقها، فتسبقه مرة ويسبقها مرة، فيقول لها :“هاته بتلك”
الرسول الكريم أبا
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مثال الأب الحنون العطوف، الرحيم بأولاده. ثبت في الصحاح أنه صلى الله عليه وسلم قّّبل إبراهيم وشمه. وانه تأخر في السجود تأخرا ملحوظا، فلما سئل عن السبب، قال :“إن ابني ارتحلني وأنا ساجد فكرهت أن أعجلّه”وروي كذلك أنه كان يقوم من مجلسه لابنته سيدتنا فاطمة الزهراء عليها تمام الرضا، فيقبلها على جبينها ويجلسها مكانه مفرشا لها رداءه.
هكذا كان رسول الله عليه الصلاة والسلام محبا ودودا، لا مع أبنائه فحسب ولكن مع أبناء المسلمين كافة. فكان يعاملهم معاملة كلها رحمة ورفق. وكان يحث آبائهم على التلطف معهم وينهاهم عن قسوة المشاعر وجمود العاطفة، فيعطي من نفسه القدوة حتى يصحح المفاهيم الخاطئة، ويرسي جذور الرحمة والرفق. فكان صلى الله عليه وسلم يحمل الصبيان ويقبلهم، ويعترض طريقهم ويمازحهم. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن أو الحسين بن علي، وعنده الأقرع بن حابس التميمي، فقال الأقرع : إن لي عشرة من الولد ماقبلت منهم أحدا قط. فنظر إليه رسول الله ثم قال 🙂“من لا يرحم لا يرحم” 11
الرسول الكريم إنسانا
كانت علاقة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه تقوم على الود الصافي، إذا التقى بأحدهم مازحه، وان غاب أحدهم سأل عنه. يعود مريضهم ويهنئ سعيدهم ويعزي مصابهم. ومن أجمل ماروي عنه صلى الله عليه وسلم في معاملته لأصحابه ما أخرجه البيهقي في سننه الكبرى عن أنس :أن رجلا من أهل البادية كان اسمه زاهر بن حزام أو حرام، قال : وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه، وكان دميما، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يوما وهو يبيع متاعه، فاحتضنه من خلفه وهو لا يبصره، فقال : أرسلني، من هذا، فالتفت، فعرف النبي صلى الله عليه و سلم، فجعل لا يألو ما ألزق ظهره بصدر النبي صلى الله عليه وسلم حين عرفه، وجعل النبي صلى الله عليه و سلم يقول 🙂“من يشتري العبد”فقال : يا رسول الله إذا والله تجدني كاسدا، فقال النبي صلى الله عليه و سلم 🙂“لكن عند الله لست بكاسد، أو قال : لكن عند الله أنت غال”لقد اتسم الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم بالعدل وطبقه حتى قال : “والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها”وكان يخطب في الناس ويقول :“أيها الناس : من كنت جلدت له ظهرا، فهذه ظهري فليجلدها، ومن شتمت له عرضا فهذا عرضي فليشتمه، ومن أخذت منه مالا فهذا مالي فليأخذه مني، ولا يخشى السحناء فإنها ليست من طبيعتي” 12 كما كان من الشجاعة والنجدة بمكان لا يجهل، حضر المواقف الصعبة، وفرّ الأبطال عنه غير مرة وهو ثابت لا يبرح، ومقبل لا يدبر. قال عنه ابن عمر رضي الله عنهما :ما رأيت أشجع منه ولا أنجد منه ولا أرضى ولا أفضل من رسول الله صلى الله عليه وسلم) 13
فداك أبي وأمي يا رسول الله، كنت ولازلت النموذج الفريد للخلق العظيم. نورت العقول وأذهبت عنها غيوب الجهل، أحييت النفوس وأعدت لها حريتها. ربيت وقومت فأحسنت، وأرشدت وعلمت فأتقنت. سويت بين القوي والضعيف وبين الوضيع والشريف. أتعبت نفسك وأهلك لتسعد غيرك. حوصرت وطردت وضربت وجرحت فصبرت لنهتدي.
أخي القارئ، أختي القارئة
إن مما ينبغي أن نعلمه أن حياة رسول الله نبع فياض غزير الخير، حافل بكل خلق كريم. كيف لا وقد جمع بين الشفقة والرأفة لجميع الخلق. قال الله تعالى: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين 14 روي أن أعرابيا جاء ليطلب من الرسول الكريم شيئا فأعطاه ثم قال :“أحسنت إليك؟”قال الأعرابي: “لا ولا أجملت” فغضب المسلمون وقاموا إليه، فأشار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كفوا. ثم قام ودخل منزله، وأرسل إليه وزاده شيئا ثم قال:“أحسنت إليك؟”قال:نعم وجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا)فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:“إنك قلت ما قلت وفي أنفس أصحابي من ذلك شيء، فان أحببت فقل بين يديهم ماقلت بين يدي حتى يذهب ما في صدورهم عليك”قال : نعم.)فلما كان الغد أو العشي جاء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : “إن هذا الأعرابي قال ما قال فزدناه إنه رضي، أكذلك ؟”قال :نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا) فقال رسول الله :“مثلي ومثل هذه مثل رجل له ناقة شردت عليه، فأتبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفورا، فناداهم صاحبها : خلوا بيني وبين ناقتي فإني أرفق بها منكم وأعلم، فتوجه لها بين يديها، فأخذ لها من قمام الأرض فردها حتى جاءت واستناخت وشد عليها رحلها واستوى عليها. وإني لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار” 15
هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصا على أمته، خائفا عليها، سعيدا أن يرى عدد المؤمنين يزداد، وعدد أهل الجنة يرتفع، متحملا كل الأذى في سبيل أن ينجو العبد من غضب ربه، سبحانه القائل :لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم، حريص عليكم بالمومنين رءوف رحيم 16
[2] رواه الإمام احمد رضي الله عنه.
[3] رواه البخاري ومسلم رضي الله عنهما.
[4] رواه البخاري.
[5] رواه الدارمي.
[6] سورة التوبة الآية128
[7] رواه البزاز.
[8] التوبة الآية129.
[9] صحيح البخاري.
[10] رواه الإمام احمد رضي الله عنه.
[11] رواه البخاري ومسلم رضي الله عنهما.
[12] رواه البخاري.
[13] رواه الدارمي.
[14] سورة التوبة الآية128
[15] رواه البزاز.
[16] التوبة الآية129.