ومن كمال الخلق المداراة

أوحى الله جل وعلا لنبيه عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام أن خير الدين وأسه وأساسه وركيزته المتينة هو المعاملة بين الناس حين قال صلى الله عليه وسلم:
“الدين المعاملة”هذه المعاملة بالقول والفعل تقتضي خلقا حسنا يؤثر في الآخرين، يؤالفهم ولا ينفرهم، يواخيهم ولايبعدهم. ففي السنة النبوية أن المؤمن هين لين، يألف ويؤلف، بشره في وجهه، عفو حليم، رفيق صادق، صابر كاظم للغيظ… ونجد أن مما يجمع لنا هذه الصفات كلية: خلق المداراة.
ورد في لسان العرب : دارأته مدارأة وداريته إذا اتقيته ولاينته، ومنه أيضا درأ يدرأ أي دفع، فكل ما يدفعه الإنسان عنه فقد درأه. ففي الحديث :“ادرؤوا الحدود بالشبهات “ 6
أخرج العسكري عن سفيان بن عيينة قال: ما من حديث عن المصطفى صلى الله عليه وسلم إلا وأصله في القرآن )فقيل: يا أبا محمد قوله “رأس العقل بعد الإيمان المداراة”فأين المداراة في القرآن ؟قال قوله تعالى:)واهجرهم هجرا جميلاوهل الهجر الجميل إلا المداراة. ومن ذلك )وبالتي هي أحسنوقولوا لله حسناولمن صبر وغفر وغير ذلك)ولما كانت العلاقات الاجتماعية بين الناس يطبعها أسلوب التعاون والتآزر، فإن ممارسة المداراة أمر طبيعي يفرضه السلوك الأخلاقي ويحث عليه الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم :“أمرت بمداراة الناس كما أمرت بتأدية الفرائض” 7 ،وقال ابن حجر العسقلاني نقلا عن ابن بطال :المداراة من أخلاق المؤمنين وهي خفض الجناح للناس وترك الإغلاظ لهم في القول وذلك من أقوى أسباب الألفة)
فبالمداراة واحتمال الأذى يظهر لب الخُلق وجوهره فقد قيل لكل شيء جوهر وجوهر الإنسان العقل وجوهر العقل المداراة، فما من شيء يستدل به على عقل المرء وامتلاكه لنفسه وضبطه لها كالمداراة.
قال ابن الأثير رحمه الله :المداراة ملاينة الناس وحسن صحبتهم واحتمالهم لئلا ينفروا عنك أو يؤذوك)وقد يتبادر إلى الذهن أن المداراة هي نوع من المداهنة أو الترخص في الدين، في شرح الإمام البخاري رحمه الله :المداراة الرفق بالجاهل في التعلم وبالفاسق بالنهي عن فعله وترك الإغلاظ عليه، والمداهنة: دهن الرجل إذا نافق كما يقول ابن منظور في لسان العرب، وهي معاشرة الفاسق وإظهار الرضا بما هو فيه)وهكذا يتبين أن المجاملة والمداراة والمصانعة مطلوبة مع جميع من نخالطهم من الناس لكسب الود، وقطع حمية النفس، ودرء الأذى، أما المداهنة والنفاق فممنوعة بل محرمة.
قل أبو سليمان الخطابي :
مادمت حـيا فدار الناس كلهم***فإنما أنت في دار المداراة
من يدر دارى ومن لم يدر سوف يرى***عما قليل نديما للندامات
معالم في المداراة
1. بين الزوجين
يقول الأستاذ عبد السلام ياسين في كتاب تنوير المومنات :
المداراة من مصلحات البيئة الزوجية بل من أساسياتها. المداراة تعني السياسة الكيسة، ومراعاة نفسية المرأة، وما جبلت عليه مما لا يتفق وأسلوب الرجل في الحياة وطريقته في التفكير، ومنطقه في تصنيف أهميات المعاش وأولوياته) أحوج الزوجين إلى هذا الخلق الرفيع لتأسيس وبناء نواة قوية وفاعلة في المجتمع وهي الأسرة والتي لا تكون بهذا النعت إلا إن قامت على المودة والرحمة والتعاطف والتسامح، فيداري الزوج زوجه بما هي أهل له كما جاء في الحديث:“دارها تعش بها” 8
فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم النموذج الكامل في مداراة وملاينة وكسب ود نسائه لا يواجه الناس بما يكرهون، وصَفته عائشة رضي الله عنها عندما سئلت عن حاله إذا خلا بنسـائه فقالت :كان كرجل من رجالكم، غير أنه كان من أكرم الناس وأحسن الناس خلقاً وكان ضحاكاً بساماً)
وتداري الزوج المرأة عند الحموة بما جبلت عليه من حافظية لأنها تكون أقدر على كسب النفس وجمع الشمل، عن سيدتنا أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت:جاءني رجل فقال : يا أم عبد الله، إني رجل فقير أردت أن أبيع في ظل دارك. قالت : إني إن رخصت لك أبىَ ذلك الزبير، فتعال فاطلب إليَّ والزبير شاهد. فجاء الرجل فقال : يا أم عبد الله، إني رجل فقير أردت أن أبيع في ظل دارك. فقالت: ما لك بالمدينة إلا داري ! فقال لها الزبير: ما لك أن تمنعي رجلاً فقيرًا يبيع. فكان يبيع إلى أن كسب) 9 تنال أسماء بنت أبي بكر ما رامته بحنكة وحكمة، فبمثل هذه المداراة تكسب القلوب وتحفظ البيوت وينال الثواب.
ومن أسس استقرار البيت مداراة الحماة، وتألفها إعانة للزوج على برها وحماية للسكن والدفء الأسري. يقول الأستاذ “عبد السلام ياسين في كتاب التنوير:كوني لها بنتا محبة تكن لك أما. كوني عاقلة تكن فاضلة. بكياستك وأدبك ولطفك حصليها في أََسرِك)
2. مع الأقربين
فهم أولى الناس بالود والملاينة والمصانعة ومعهم يظهر جوهر الخلق من زيفه. وفي كتاب تنوير المومنات : تنفق المومنة من كنوز المحبة، واحتياطي المداراة، وملطفات الأجواء بالخدمة واللياقة واللباقة، ومنْجِدات التحمل والصبر. وصْلُ ما أمر الله به أن يوصل من عُرى القرابة إصلاحٌ في الأرض، وإصلاحٌ للعمل. لا تأْلو المومنة جُهداً في تلافي ما يفصل ويقطع ويوحش، فهذه أسماء الصديقة رضي الله عنها التي تربت في أحضان النبوة دخل عليها جدها وما كان وقتها قد أسلم وهو كفيف فقال لها : “ما أرى أباكم إلا قد فجعكم بماله كما فجعكم بنفسه” فأخذت أحجارا ووضعت فوقها ثوبا ليتحسسه فقال : لا بأس إذا كان قد ترك لكم هذا فقد أحسن)وأحق الناس بهذه المعاني الرفيعة الوالدان، وصية إلهية بهما مهما كان حالهما ما لم يدعوا إلى الشرك في قول الله تعالى: وصاحبهما في الدنيا معروفا فالآية أعظم حث على مداراتهما وحسن صحبتهما التماسا لبرهما وطلبا لرضى الله تعالى بإرضائهما.
3. مع الخصوم والأغيار
امتثل رسول الله أمر ربه فبلغ في المداراة الذروة، ثمارها عمت حتى الأعداء استمالة لقلوبهم وحرصا على آخرتهم كما في موقف النبي صلى الله عليه وسلم مع مخرمة بن نوفل :
“أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُهْدِيَتْ لَهُ أَقْبِيَةٌ مِنْ دِيبَاجٍ مُزَرَّرَةٌ بِالذَّهَبِ فَقَسَمَهَا فِي نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَعَزَلَ مِنْهَا وَاحِدًا لِمَخْرَمَةَ بْنِ نَوْفَلٍ، فَجَاءَ وَمَعَهُ ابْنُهُ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ فَقَامَ عَلَى الْبَاب فَقَالَ ادْعُهُ لِي فَسَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَوْتَهُ فَأَخَذَ قَبَاءً فَتَلَقَّاهُ بِهِ وَاسْتَقْبَلَهُ بِأَزْرَارِهِ فَقَالَ يَا أَبَا الْمِسْوَرِ خَبَأْتُ هَذَا لَكَ يَا أَبَا الْمِسْوَرِ خَبَأْتُ هَذَا لَكَ وَكَانَ فِي خُلُقِهِ شِدَّةٌ” 10 أو دفعا لأذاهم واتقاء لشرهم روى الإمام البخاري في صحيحه من حديث أمنا عائشة رضي الله عنها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إذنه لأحدهم بالدخول عليه مداراة :“يا عائشة إن شر الناس عند الله يوم القيامة من يتقيهم الناس مخافة شرهم”
كفانا الله وإياكم شر خلقه وجعلنا مفاتيح للخير مغاليق للشر كما دعا النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه.
[2] رواه بن أبي الدنيا مرفوعا
[3] أخرجه الإمام أحمد رحمه الله.
[4] رواه الإمام مسلم رحمه الله.
[5] صحيح البخاري
[6] تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي
[7] رواه بن أبي الدنيا مرفوعا
[8] أخرجه الإمام أحمد رحمه الله.
[9] رواه الإمام مسلم رحمه الله.
[10] صحيح البخاري