وسقطت ورقة التوت

اهتزت فرنسا في الآونة الأخيرة لاضطرابات دامت أياما متتالية، بل تعدتها في بعض المناطق إلى أسابيع كانت ساحاتها الضواحي الفقيرة التي تشعر بأن أغلبية ساكنتها من ذوي الأصول العربية والأفريقية. وما إن انطلقت الشرارة الأولى لهذه الأحداث في الضاحية الباريسية كرد فعل للتصريحات الاستفزازية لوزير الداخلية الفرنسي نيكولا ساركوزي والتي خلفت أسى واستياء عميقا في نفوس هذه الفئة من المجتمع الفرنسي، حتى سرت وامتدت إلى باقي المدن كسريان النار في الهشيم. هذه الأحداث وما خلفتها من ضحايا وردود أفعال على تباين مواقفها، جعلتنا نجلس قليلا ونتساءل عن خلفية هذه الأمور : ماضيها مستقبلها وحاضرها. لا نستطيع أن ننكر أن السياسة الفرنسية، التي ترفض التعددية الثقافية ولا تتعامل مع أبنائها إلا من زاوية المواطنة الفردية، كانت لها اليد الطولى في هذه الاضطرابات التي شكلت مظهرا جليا لرفض هذه السياسة وما يترتب عنها من تهميش وبطالة وانسداد الآفاق لهذا الشباب الغاضب، حتى أضحى يرى نفسه مواطنا من الدرجة الثانية في وطن شهد ميلاده وترعرع بين دروبه وأزقته.
فبالفعل، إذا ساءلنا واقع الحياة قليلا نرى أن العديد من المعطيات والوقائع أثبتت أن طلبات العمل التي تتشابه في المؤهلات أي على مستوى التعليم وسنوات الخبرة مثلا لا تعامل بموضوعية لمجرد أن الإسم له أصول “أجنبية” إفريقية أو عربية، أو لأن العنوان ضاحية من ضواحي المدن الفرنسية. ومما يعزز هذه العنصرية سياسة الإقصاء التي مارستها جميع الحكومات الفرنسية منذ عقود، اليمينية منها واليسارية، التي جعلت المؤسسات والمناصب العليا الرسمية، من حكومة وبرلمان وقضاء وإدارة وشرطة وغيرها، تخلو أو تكاد تخلو تماما من الوجوه المنحدرة من أصول عربية، رغم أن هؤلاء يشكلون اليوم ما يقارب 10% من السكان علاوة على إثبات الأقدمية في العمل. وإذا كان هذا الشاب أو الشابة ذوي الأصول الأجنبية لا يستطيعون العمل للأسباب التي ذكرناها فكيف لهم أن يحصلوا على شقة، مع العلم أن طلبات تأجير الشقق تعامل بنفس التمييز. وبالتالي يجد أولئك المهمشون أنفسهم في دوامة لا أول لها ولا آخر.
هذه بعض الأمثلة الحية، أما إذا أردنا الحديث عن المعاناة النفسية التي يولدها شعور هؤلاء الشباب بأنهم غير مرغوب فيهم وأنهم لا يستحقون الاهتمام فسيطول حديثنا. والمؤسف في الأمر أن الأساتذة والمعلمين في المدارس والكليات لهم دور كبير في تعميق الجرح، فقد نشرت معلمة فرنسية تعمل في مدرسة في ضواحي مدينة ليون مقالا في موقع على شبكة الإنترنت تصف فيه المعاملة السيئة التي يحظى بها هؤلاء الشباب من قبل المعلمين. وهذه بعض العبارات التي توجه إليهم كل يوم :
– “أول يوم لدخول المدارس يصادف عيد الفطر إذن سنحظى بيوم هادئ”.
– “أنت على موعد مع والدة الطالب كريم بالرغم من أنها عربية الأصل إلا أنها امرأة جيدة”.
– “لماذا تأتي إلى المدرسة ؟ حتى يحصل والديك على الإعانة العائلية أليس كذلك ؟”.
– “فاطمة ضربها والدها لكن لا داعي للقلق هكذا هي ثقافتهم هكذا يهتمون بأطفالهم”.
– “لا أفتأ أقول لنوال أنت تخالطين العرب فقط ألا تستطيعين الخروج من هذا المجتمع وتخالطين الفرنسيين قليلا”.
ومن هنا لا تطرح الاضطرابات التي عرفتها فرنسا أسئلة عديدة على الفرنسيين وحسب، ولكن على جميع الدول الصناعية التي تجتذب الملايين من المهاجرين الجدد الذين سيحتلون مواقع دونية من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، في الوقت الذي تشيع فيه الثورة المعلوماتية -كما لم يحصل في أي وقت سابق- روح المساواة والندية بين جميع الشعوب والأقوام، وتفقد أمام ذلك جميع أيديولوجيات التفوق الثقافي العنصرية، بريقها الكاذب.
من جهة أخرى لابد لنا أن نسائل تلك البلدان الفقيرة التي تلفظ أبناءها بالملايين نتيجة العجز المتزايد عن تأمين شروط الحياة الإنسانية العادية على قاعدة تأمين الحد الأدنى من الانسجام مع معايير العصر المادية والأخلاقية فهي بلا شك ساهمت بشكل أو بآخر في تدهور تلك الأوضاع وبلغ السيل الزبى حتى فاضت الكأس بما فيها.
فهذه البلدان تواجه تحديات لا سابق لها للمنظومة الدولية، أي لنظامها الجماعي، ولتوجهات مؤسساتها الكبرى المالية والاجتماعية، ولسياساتها الضعيفة التي لا تزال قاصرة وأحيانا متناقضة مع ما يتطلبه تحقيق السلام والأمن الدوليين من القبول بمفاوضات عالمية جدية تشارك فيها جميع الشعوب في سبيل بلورة حلول متسقة ومتفاهم عليها لجميع المشاكل الدولية.
وفي مقدمة هذه المشاكل وأهمها من دون شك مشكلة التنمية الإنسانية وبناء نظام عالمي متوازن يبعث الأمل ويقنع جميع الأطراف بفائدة التعاون والتضامن والعمل المشترك البناء، يخلف نظام الفوضى الراهن الذي تسعى فيه بعض الأطراف القوية إلى جر العالم أجمع إلى معارك وهمية أو مصطنعة تدفع الجميع إلى اليأس وتزيد من مخاطر التخريب والعدوان.
ولكن في خضم هذا وذاك، لابد لنا من وقفة مع الذات نحاور خلالها أنفسنا عن مستقبلنا الذي ما فتئ يجر أذيال الماضي ويحمل خيبة الحاضر فهاهي ذي الأحداث قد أسقطت ورقة التوت عنا وكشفت لنا عورات غيرنا فلما لا تظهر لنا عوراتنا ؟
حقا ماذا فعلنا لسد الهوة بيننا وبين إخواننا في الإنسانية، ماذا فعلنا كي نجعل المنحدر جبلا نسمو إلى أعاليه، حادينا الإحسان في خطواتنا ومطلب العدل معهم وبينهم لا يغيب عنا ؟ فها هي ذي هجرة من قبلنا إلى هذه الديار جعلت ظلمات أوربا أنوارا، كيف لا وهم من تتلمذ على يد الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم وأخذ العلم من أعالي التاريخ.
ولا يسعني هنا وأنا أختم كلامي إلا أن أضع بين أيديكم هذا الحديث العظيم لسيد الخلق أجمعين، وصحابية من خير نساء طلعت عليهن الشمس لازال قبرها في هذه الديار شاهدا على اندماجها في مجتمع بدأ غريبا عنها.
أخرج البخاري أن أم حرام بنت ملحان سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشر قائلا:“ناس من أمتي يركبون البحر الأخضر في سبيل الله”هو المسمى البحر الأبيض المتوسط“مثلهم مثل الملوك على الأسرة” فقالت: “يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم” فدعا لها وقال: “أنت مع الأولين ولست مع الآخرين”قال أنس راوي الحديث:فتزوجت عبادة بن الصامت رضي الله عنه وركبت البحر مع بنت قرضة)