موفقة بنت موفق

كلما بزغ هلال ربيع الأول من كل عام جديد للقمر، فرض الشهر الكريم علينا أن نسترجع أكرم ذكرى وأعظم حادث في الوجود: إنها ذكرى إشراق نور المصطفى محمد عليه الصلاة والسلام. الذي بدد الظلام، وأزال الغمام، وتربت على يده نساء كاملات. كمال القلب والعقل. ومبشرات بالجنة أيضا.
ولا يسعنا ونحن نحتفل بهذه الذكرى إلا الوقوف على شخصية مؤمنة، طاهرة، إنها سيدتنا أم كلثوم بنت سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
أختها عائشة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، والبنت الثالثة لأبي بكر الصديق. أمها هي الصحابية الجليلة “خارجة” رضي الله عنها. نبأ بها أبوها وهي في بطن أمها، وأوصى بها أختها عائشة حين قال:ذو بطن ابنة خارجة أراها جارية قد ألقي في روعي إنها جارية. فاستوصى بها خيرا) 2 . واستوصى بها خيرا أختها عائشة رضي الله عنها.
تربت أم كلثوم يتيمة الأب والأم. على يد أختها عائشة تنفيذا لوصية أبيها. ربتها أحسن تربية. كيف لا وأمنا عائشة تربت على يدي سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم. فتشربت منه الإيمان والصلاح والتقى، فكانت قدوة لأختها ومربية لها، وقد قيل عنها أنها كانت: “مربية الرجال والنساء معا”.
حينما بلغت أم كلثوم سن الزواج تقدم لخطبتها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، إكراما لأبيها وصديقه أبي بكر الصديق.
أرسل سيدنا عمر بن الخطاب إلى السيدة عائشة أم المؤمنين رسولا لخطبة أختها، فأجابته بكلام عذب جميل : ” حبا وكرامة ” .
قدر الله الزواج أم لم يقدره، تبقى عبارات المودة والمحبة بين الطالب والمطلوب.
لكن عائشة رضي الله عنها نظرت جليا في الأمر. فأم كلثوم مسؤولية تحملها على عاتقها، ولا ينبغي أن تعطيها إلا لمن تراه مناسبا لها. عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أمير المؤمنين، سيد الرجال. لكن أم كلثوم صغيرة السن لن تقدر على تحمل شظف العيش معه.
اختارت سيدتنا عائشة لأختها الصغيرة سيدنا طلحة بن عبيد الله رضي عنه أحد المبشرين بالجنة. سماه رسول الله رسول الله صلى الله عليه وسلم طلحة الفياض، وطلحة الجود. وقال عنه: “من أراد أن ينظر إلى شهيد يمشي على رجليه، فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله”. أعلام النبلاء للذهبي.
لذلك إذن كانت سيدتنا أم كلثوم زوجة لسيدنا طلحة رضي الله عنه. ذكر أصحاب السير عنه أنه أوتي مالا قدره سبعمائة ألف من حضرموت، فبات ليلة يتململ.فقالت له زوجته أم كلثوم: ما بك ؟
فأجابها: ما ظن رجل بربه يبيت وهذا المال في بيته؟
قالت له: فأين أنت من بعض أخلائك. إذا أصبحنا فادع بجفان وقصاع فقسمه.
فقال : رحمك الله، موفقة بنت موفق.
في الصباح دعا بجفان فقسمها بين المهاجرين والأنصار. وقالت له زوجته: يا أبا محمد، أما كان لنا في هذا المال من نصيب؟
قال: أين كنت منذ اليوم؟ فشأنك سيبقى. فأخذت ما تبقى وكان ألف درهم. “مختصر تاريخ دمشق وذكره الذهبي في السير”.
إنها موفقة بنت موفق رضي الله عنها وأرضاها. تعلمت من أختها الرحمة والمحبة والعطاء، احتسابا لوجهه الكريم سبحانه. تعلمت منها الإيمان وحب الخير للناس، وطرد كل شح أو طمع أو حب للمال أو للدنيا.
رضي الله عنها وأرضاها، وعن جميع الصحابيات الجليلات، وكل من اهتدى بهديهن إلى يوم الدين، آمين.. والحمد لله رب العالمين.