منزلة حسن الخلق من الدين
شاءت أقدار الله أن نعيش في زمن عرف صحوة إسلامية كبيرة وكثر فيه الإقبال على الإسلام، زمن غصت مساجده بالمصلين وعكف فيه الناس عل صيام النوافل وكثرفيه حجاج بيت الله الحرام. فالكل أصبح همه الإكثار من العبادات عسى أن يلقى الله وهو عنه راض. في المقابل نجد ضعفا كبيرا في الوازع الأخلاقي، يتمثل في مظاهر الكذب والغيبة والنميمة والغش وقول الزور وقطيعة الرحم وعقوق الوالدين وأذى الجار، وغيرها من المعاملات السيئة التي تفشت بشكل كبير وملفت للنظر. ونظرا لما لحسن الخلق من مكانة في ديننا، إذ يقول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم :“إن المسلم المسدد ليبلغ درجة القائم الصائم بحسن خلقه وكرم ضريبته”(أي حسن طويته)، ولما له من آثار طيبة في إصلاح الفرد الذي هو اللبنة الأولى في إصلاح المجتمع، إذ هو المدخل للتغيير الشامل، قال الله تعالى:إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم 8 لأجل هذا وغيره أصبح من الضروري الوقوف عند أهمية حسن الخلق وعلاقته بالعبادة وأسباب ضعفه والبحث عن وسائل اكتسابه وعن سبل اكتماله.
إنك لعلى خلق عظيم
جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم برسالة إلاهية خالدة، انتقلت بالبشرية من بحر الظلمات إلى شاطئ النور، ومن عالم الانحلال إلى عالم الفضيلة، ومن أوحال الشهوات إلى صفاء الروح.
فأعلن صلى الله عليه وسلم في بداية دعوته أن من أجل مهامه وأعظمها النهوض بالأمة إلى قمة الكمال الإنساني:“إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”لهذا حباه الله سبحانه وتعالى بأفضل الصفات وأعظم الخصال، فهو الصادق المصدوق، والوفي الأمين، والرحيم الحليم. كان:“خلقه القرآن”كما قالت أمنا عائشة رضي الله عنها عندما سئلت : “ما كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟”
سهر رسول الله عليه الصلاة والسلام على تربية جيل من الصحابة الكرام، متشبعين بأخلاق إيمانية عالية أساسها الرفق والرحمة بخلق الله، أسوتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعث رحمة للعالمين. فشعروا بواجبهم تجاه هذا الدين، وعلموا علم اليقين أنهم مسؤولون أمام الله على تبليغ رسالة الرحمة فحملوا لواء هذا الدين بأمانة، ودخلوا به كل بيت استطاعوا دخوله، واندمجوا مع كل مجتمع يمكنهم الاندماج بين أهله. مبلغين رسالة ربهم، آمرين بالمعروف، ناهين عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة امتثالا لقول الله تعالى :ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن 9
وكان سر نجاح الصحابة رضوان الله عليهم في حياتهم الخاصة والعامة، إدراكهم تمام الإدراك أن حسن الخلق مقربة للمولى سبحانه، وقرب منزلة من رسوله، في الدنيا والآخرة. فكان لذلك آثار ايجابية في صياغة شخصية المسلمين السليمة، المتزنة الفهم، المعتدلة الخلق. وفي بناء مجتمع قوي أساسه العدل وعماده الرحمة ومقوماته الصلاح والفضيلة.
اكتمال الإيمان من اكتمال الخلق
بالخلق الكريم أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه وأتباعه. وجعل العقيدة الإيمانية الصحيحة جوهر الأخلاق السامية ونواة كل عمل صالح. فالعلاقة بين الإيمان والأخلاق قوية وعميقة، لأن الإيمان قوة عاصمة للإنسان من رذائل الأعمال وخبائث الأفعال، تدفعه إلى فعل الخير والتحلي بأجمل الصفات. وكذلك إن تتبعنا آيات القرآن التي ينادي فيها رب العالمين عباده المؤمنين، نجده سبحانه يربط القيم الأخلاقية وكمالها بالإيمان الصادق. وهذا ما ماعبر عنه الحبيب المصطفى حين قال:“أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا وألطفهم بأهله” 10
كما أنذر نبينا عليه الصلاة والسلام كل من اعتنى بعباداته وأغفل الاهتمام بأخلاقه، ظنا منه أن الإكثار من العبادة هو السبيل الوحيد للفوز برضا الله تعالى. فهذا الرسول الكريم يخبرنا بحقيقة الإفلاس والمفلسين فيقول :“أتدرون من المفلس؟ قالوا : المفلس فينا من لادرهم له ولا متاع. فقال إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه فطرح في النار” 11
لكننا نجده صلى الله عليه وسلم في مواطن أخرى يرغب المؤمنين ويحثهم على اكتساب حسن الخلق،مبينا قيمته الكبرى ومجليا لجزائه الأوفى ،جاعلا المتصفين به مع المكثرين للصلاة والصيام في درجة واحدة عند الله سبحانه:“إن المسلم المسدد لينال درجة الصوام القوام بآيات الله بحسن خلقه وكرم ضريبته” 12
وقد بشر عليه الصلاة والسلام أحاسن الأخلاق من المؤمنين والمؤمنات واعدا إياهم بمحبته وصحبته الكريمة فقال :“إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا. وأبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلسا يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون” 13 فطوبى لعبد سمع وامتثل، فعرف الطريق واستقام.
سبل اكتمال الخلق
يقول الأستاذ عبد السلام ياسين:رأس الخلق الكامل امتلاك النفس، وقمعها تحت طائلة التقوى. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لايغضب إلا إذا انتهكت حرمات الله)ويضيف قائلا :امتلاك النفس وحملها على الحق منزجرة أبدا محكومة. هذا يعني القدرة على سياسة القوة الشهوانية، وكبح جماح القوة الغضبية بالشرع لتكوني أنت المتصرفة لا الهوى والنزوات ومزاج الساعة) 14 لبلوغ درجة الكمال الخلقي إذن، لايكفي الاتصاف بالأخلاق الحسنة فحسب، بل يجب أن نتعدى ذلك إلى الإحسان إلى خلق الله أجمعين، سواء منهم المحسنين إلينا أو المسيئين. ولن يتأتى هذا إلا إذا كان شرع الله وسنة رسوله جوهر حياتنا وأساسها وكانت الرحمة والرفق عماد المعاملة الإنسانية ودعامتها، وكان الإحسان ظلا يتفيؤه كل حي ولو كان حيوانا أو حشرة.
وختاما :
أخي القارئ ، أختي القارئة،
من منا لا يرغب في محبة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ويتوق إلى صحبته ؟
من منا ليس من غايته الكبرى طلب الكمال البشري وعلى رأسه حسن الخلق ؟
من منا لايريد التربع على عرش العبادات، عرش زينته الأخلاق الفاضلة والخصال الحميدة ؟
لأجل هذا وغيره ندعوكما إلى مأدبة الرحمن، نتذوق خيراتها ونرتوي من معينها.
ندعوكما إلى التسابق إلى مغفرة من ربنا وجنات عرضها السموات والأرض.
طارقين بابه سبحانه وتعالى، متوسلين رحمته، راجين رضوانه.
عسى هذه المعاني وغيرها توقظ قلوبنا وتنور عقولنا لطلب ما عند الله.
[2] النحل الآية125.
[3] رواه الترمذي.
[4] صحيح مسلم.
[5] رواه أبو داوود بسند صحيح.
[6] رواه الترمذي بسند حسن
[7] تنوير المؤمنات ج2ص51/52.
[8] سورة الرعد الآية 11
[9] النحل الآية125.
[10] رواه الترمذي.
[11] صحيح مسلم.
[12] رواه أبو داوود بسند صحيح.
[13] رواه الترمذي بسند حسن
[14] تنوير المؤمنات ج2ص51/52.