شباب بين حلم الهجرة وهم العودة

لكم يستوقفنا في هذا الزمن مفارقات عجيبة تنم عن الحيرة وعدم وضوح الهدف في هذه الحياة وإرادة الهروب من واقع هو جزء منه لا ينفك عنه…
ففي ركن من أركان العالم المتخلف، تجد الشاب يحلم بالهجرة إلى الضفة الأخرى حيث المستقبل الزاهر والعمل الكريم والكرامة الإنسانية والتأمين الصحي والاجتماعي…إنها حقا جنة الله في أرضه، فلا يكاد يهدأ بال، ينام ويستيقظ على هذا الحلم، يجد ويجتهد ليجمع ثمن “الفيزا” نحو الجنة المزعومة، يستوي في هذا الحلم الأمي والمتعلم، العاطل و صاحب عمل أو دخل محترمين، وتجد العاطل عن العمل يرفض أن يشتغل داخل بلده في عمل بسيط لا يتناسب وطموحاته أو شهاداته أو يحط من شأنه وسط ذويه.
وإذا انتقلنا إلى الضفة الأخرى حيث الجنة و النعيم، تجد الفوج الأول من الشباب الذي حقق حلمه بالهجرة وتم له والله أعلم المبتغى وحياة الاستقرار والكرامة المنشودة، يشتغل في غسل الأطباق في المطاعم أو التنظيف أو مستخدمين بمحطات البنزين… المهم أن الدخل جيد وحقوقهم الإنسانية محفوظة.
ولكن بدأ يظهر لهم في الأفق عقبات لم تخطر ببالهم عند جريهم وراء الحلم القديم. فألم الغربة بدأ ينخر في راحتهم واستقرارهم وبدأ القلق على أولادهم أن يتفلتوا من بين أيديهم، فهذه المجتمعات المتقدمة تخول لهم الحريات التي تتجاوز السلطة الأبوية وتضرب بها عرض الحائط، إذا ما تجاوز الابن أو الابنة سن 18، فيستشعر ناقوس الخطر ويحتار بين المستقبل الجميل الذي رسمه لولده في بلاد الحريات، و بين قلقه على مستقبله الأخلاقي أو ترديه عن ثقافته الأصلية و هويته الإسلامية، رغم أن موضوع الهوية الإسلامية لم يكن مطروحا حين كان يخطط لهجرته أو كان غافلا تماما عنه، فينبعث لديه فجأة في بلاد الغربة ويتمسك به باعتباره أمنه وملاذه بعد أن رأى رأي العين طغيان الحضارة المادية وما تستبيحه من محرمات من باب الحريات العامة والدفاع عنها وما تكرسه من أنانيات فتورث قسوة في العلاقات الإنسانية، فيصل هذا المهاجر المسكين إلى طريق مسدود حيث الأمن الصحي والاجتماعي ودعاوي حقوق الإنسان لم يعودوا كافيين لمنحه الشعور بالأمن والأمان، يقول الله تعالى في كتابه العزيز: ” الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم، أولئك لهم الأمن وهم مهتدون”، وينقلب الحلم غمّا وحيرة، فيبدأ بالتفكير في طريق العودة ويحاول جمع بعض المال لعله يبني به مشروعا عند عودته إلى الوطن، ولكن أنى له ذلك؟ فما يكسبه في بلاد الغربة يكفيه بالكاد لسد حاجياته وأسرته الضرورية، فرغم الدخل المغري فهناك في المقابل ارتفاع المستوى المعيشي.
تعالوا نلقي الضوء على فريق آخر من المهاجرين توحلت رجلاه داخل الحياة المادية ودوامتها تتلاوحه أمواجها فترمي به بعيدا عن هويته الإسلامية، إلا أن داخله لا يفتأ يذكر وطنه وحضن أمِّه وخبزها وقهوتها، ويحن لسماع الآذان، وبقايا تدينه تعذبه وتمزق قلبه، فيحاول دفن نفسه ونداءه الداخلي بالعودة في كأس الشراب وترانيم أغاني الوطن “قطران بلادي ولا عسل البلدان”، ولا يملك أن يلملم شتاته ويستجيب لهمس العودة.
لكم يشرفنا أن تكون هجرة إخواننا هجرة يحبها الله ورسوله، هجرة لطلب العلم والخبرة والتسلح بهما من أجل بناء الوطن، هجرة عظيمة الأهداف تطلب خلاص الوطن لن تتخللها بإذن الله حيرة ولا خوف إنها والله هجرة آمنة مأمونة يرعاها الله ويباركها، فهي ترسم من البداية خط العودة ولا تتنكر للوطن وأهله، حينذاك نريدها عودة فاعلة تسعى للتغيير وتحقيق الأمل في العزة والكرامة والأخوة الإنسانية لجميع أبناء الوطن وتفخر به الأجيال القادمة. فالهروب لطلب الخلاص الفردي لن يجدي شيئا، فلعنة الظلم والذل قد تلحقه وأولاده أينما حل وارتحل، ما لم نواجهه جميعا وكجسم واحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى إعرابا عن الوحدة والهم الواحد، فلنقم بإذن الله قوة واحدة لتحقيق الحلم الواحد لهذه الأمة بأن تكون فعلا خير أمة أخرجت للناس.