دور الأيتام: الوجه الآخر للبؤس المجتمعي

باتت دور الأيتام ومؤسسات رعاية الأطفال المتخلى عنهم تتناسل عبر المدن المغربية بتناسل هذه الفئات من رحم التهميش والبؤس المادي والمعنوي للمجتمع.
وتظل هذه المؤسسات تلك الشجرة التي تخفي الغابة الكثيفة من الإختلالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية، التي تثير العديد من التساؤلات حول مدى الالتزام بالمواثيق الدولية لحقوق الطفل، التي يُتغنى بها في المحافل الرسمية المحلية، وحول السياسة المجتمعية المتبعة وكذا دَور التكافل الاجتماعي بهذه المؤسسات.
حقوق الطفل : أية ضمانات ؟
يكاد يجمع المتتبعون للشأن الحقوقي على ضمان بنود الإعلان العالمي لحقوق الطفل، الحاجيات الضرورية لتنشئة الطفل تنشئة سليمة ومتوازنة، سيما ذوي الاحتياجات الخاصة. لكن التفاوت الكبير بين النصوص وواقع تطبيقها يجعل هذه الضمانات حبيسة البنود.
فما كل الأطفال يتمتعون بالحماية الخاصة التي تكفل لهم “النمو الجسدي والخلقي والروحي والاجتماعي”، مع القدر الكافي من الحرية والكرامة اللازمتين لهذا النمو، كما ينص على ذلك قرار الجمعية العامة في إعلان حقوق الطفل. فالفئات المهمشة أو المحرومة من حنان الآباء بفعل اليتم والتشريد والهدر المدرسي لا تجد لها عنوانا في هذه النصوص، مادامت تعاني الإهمال وجفاء المعاملة وسوء التغذية وغياب الرعاية الصحية حتى داخل أسوار مؤسسات ” رعاية” الأيتام.
وإذا كان قانون حماية الطفل” يحظر الاتجار بالأطفال على أية صورة”، فكيف نفسر الاختلاسات المالية داخل هذه المؤسسات والتلاعب بالمعونات التي تقدم لفائدة النزلاء، يتم تحويلها إلى الحسابات الخاصة لبعض المسؤولين ؟ أليس هذا اتجارا حقيقيا واستغلالا بشعا ؟
دور الأيتام : اللقمة السائغة في فك الجشعين
لا غرو إذن، أن يجري على ألسنة بعض هؤلاء الأطفال قولهم بأن اليتم الحقيقي هو تنكر المجتمع لحقوقهم وحاجياتهم، حيث تظل الاستجابة لهم في غالب الأحيان بشكل موسمي أو احتفالي سرعان ما تنتهي مراسيمه، ليعود كل يتيم إلى معاناته وآلامه.
وتبقى الاستجابة لضروريات العيش لهؤلاء الأيتام تحت رحمة بعض الجشعين،الذين يتكالبون على الموارد المالية لهذه المؤسسات لأغراضهم الشخصية ويستأثرون بالمعونات والهبات والمساعدات الخيرية، حاديهم في ذلك ما آل إليه مصير باقي الصناديق المالية، التي طالها العبث والنهب وأُجهِز على مواردها خلسة أو على أعين ” المراقبين”.
يرى بعض الأطفال نزلاء هذه الدور، أن أمرهم يشبه إلى حد كبير أمر القطيع من البقر الحلوب، وأن لمالكه كامل الحق في التمتع بخيراته، ف “العدالة الاجتماعية” التي لا تخضع لحسيب ولا رقيب لا يمكنها إلا أن تكرس لهفة المحتاج للقمة تسد رمقه وليَد رحيمة تداوي جراحاته الجسدية والنفسية وليس لأيْدٍ تتاجر بيُتمه أو تستثمر حرمانه وحاجته إلى حضن آمن أو تسطو على براءته !
التكافل الاجتماعي: الواجب المعطل
إن إسعاد الآخرين وبث الأمل في قلوبهم، لهو خير دليل على ترابط الأفراد وتآخيهم، لا يحملهم على ذلك سوى الشعور الإنساني النبيل المجرد من كل نفعية صرفة. ويعتبر التكافل الاجتماعي أسمى هذه الروابط، خاصة إزاء الأيتام. فكل خدمة أو مساعدة مادية أو معنوية تمسح على رؤوسهم وترسم الفرحة على قلوبهم، ما لم يستشعروا فيها نظرة ابتزاز لُيتمهم أو كونهم ” أيتاما في مأدبة اللئام”.
ومن ثم، فإن الانخراط في تأهيل الأيتام وإكسابهم القدرة على الاندماج الاجتماعي، حين مغادرة هذه الدور، هو إنقاذهم من آفات الشوارع وشبكات التسول والعمالة وامتهان التدخين والمخدرات والأكياس البلاستيكية المدمرة.
غير أن التكافل الحقيقي يظل حبيس ممارسات نمطية تعيق فعاليته:
1- ثقافة التطوع للعمل الخيري التي لا تزال حبيسة المنظور المادي الصرف الذي، وإن كان مهما، فإنه لا يساعد على تأهيل الأيتام للاعتماد على أنفسهم في ضمان وضع اجتماعي مستقر بمجرد مغادرتهم هذه المؤسسات.
2- الطابع النخبوي لهذه العملية، بالنظر إلى استئثار مؤسسات رسمية بهذا المجال وضعف انخراط النسيج الجمعوي أو موسميته.
3- عجز المؤطرين المتطوعين عن مسايرة حاجيات كل الوافدين نتيجة الاكتضاض المتزايد بهذه المؤسسات وضعف التجهيزات.
سياسة اجتماعية يتيمة
هذه ملامح الوجه الكئيب لدور الأيتام ببلدنا الحبيب وما خفي كان أعظم. ملامح تعكس بجلاء غياب سياسة اجتماعية أكثر قربا وواقعية وأقوى ملامسة لحاجيات هؤلاء الأطفال وغيرهم من منبوذي الأزمة المجتمعية العارمة، سياسة ترسم على وجوههم ابتسامة حقيقية غير مفتعلة بعيدا عن عدسات الكاميرات.
إن ما تحتاجه هذه الدور هو سياسة مجتمعية تضع الأصبع على الجرح الحقيقي للأيتام وتعالجه بنظرة شمولية، تخرج بؤس هذه الفئات من براثن تسلط الطامعين، وتخبط القائمين على هذا الورش بين المشاريع الاحتفالية والحلول الجزئية المستوردة، التي تظل مجرد أنصاف حلول لا ترقى إلى معالجة البؤس الاجتماعي المتجذر في أكثر من مشهد!