خطرات في أيام عصيبات

تضييق، مداهمات، حصار، محاكمات، ترويع وسجون، اختطاف وارتهان، عنف ممنهج صارخ واضح وفاضح. قد يحسب القارئ الكريم أن هذا وصف لما يجري في بلادنا الفلسطينية المغتصبة التي تخلد أيامنا هذه ذكرى النكبة الستين في أجواء محتقنة بظلم العدو الصهيوني المغتصب الذي اقتحم البلاد وروع العباد وهدم البيوت وبنى المستوطنات… تحت عيون ومسامع غارقة في سبات عميق.
ما بين ما أصفه وأقارن به بون عميق، هذا في بلادنا المغتصبة هناك التي سيفتح الله لها يقينا لما تصفو النيات، وتنبعث الإرادات لتعد العدة وتخلص الوجه لله تعالى الذي لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وذاك في مغربنا الحبيب الذي نعتز بأرضه وإن لم نعد نأمن في سربه وهو يتصدر المقامات العالية في كل ما تستنكف منه الهمم… أرقام مهولة للدعارة، للسرقة، لغلاء الأسعار، للفقر، للأمية وللتعليم المتراجع… ثم عصي المخزن التي تلوح بين الفينة والأخرى تضييقا لا حلا لمعضلاتنا الاجتماعية والاقتصادية والأمنية.
إن بين هذا وذاك رابط متين، يمتد بجذوره في غابر الزمن وأغوار الحاضر الأليم، عنف.. دم.. ترهيب.. تسلط على بني البشر من بني البشر، الفاصل بينهم قول الشاعر:
وظُلم ذوي القربى أشد مضاضة*** على النفس من وقع الحسام المهند
شهود هذه الفضائح.. هذه الهمجية.. هذا العنف، قد نستسيغه ممن ليس على ملتنا، لكنه غصة قاتلة من غيرهم من بني جلدتنا، تحت مبررات مختلفة وفي ظل أفهام قاصرة وتوجهات زائفة.
غريب أنت يا مسلم داخل وطنك، وبين عشيرتك وقومك، تتقاسمك الأهواء، وتتجاذبك الأفهام، والله غالب على أمره، تطرد داخل بلدك، تحاصر، تعذب وترهب بعصا العنف المخزني.
لازلت أذكر لسنتين مضتا كيف طوقت أجهزة المخزن شوارع حيِّنا والناس يتساءلون، أسلاح دخل إلى المغرب يريدون القبض على تجاره؟ أم بارونات مخدرات عثرت السلطات عليها في حينا؟ أم فعل إرهابي يريدون صده؟ أم عصابة إجرامية تروع العباد قد عثروا عليها… ووسط كل هذا الزخم من التساؤلات والافتراضات براءة طفلتي تقطع حبل تفكيري: “أين نحن يا أمي أهذه هي أرض فلسطين التي نشاهدها في التلفاز؟”.
كان ذاك طوقا مخزنيا سافرا لإخراج فئة مؤمنة اجتمعت على ذكر الله، أخرجت والناس يتعجبون لما يرون، يستنكرون، يتعوذون بالله من زمن انقلبت فيه الموازين، إنهم خيرة شباب الحي، من يعرفون بدماثة الأخلاق وجميل الخلال وكريم الخصال.
مشهد أصبح يتكرر بين الفينة والأخرى، في مغربنا لا في مجرد حينا، ولم تنج منه حتى مجالس الخير والذكر التي تعقدها المؤمنات.
أي ميزان هذا الذي يُقيِّم به مخزننا المبجل؟
لم كل هذا العنف وهذا الصد لهذه الدعوة المباركة؟
لو كان المخزن يقابل عنفا بعنف لكان لتدخلاته السافرة ما يبررها ولمحاكماته الصورية ما يسوغها، فكيف وجماعة العدل والإحسان قد أعلنت لاءاتها الثلاث منذ انطلاقتها: “لا للعنف، لا للسرية، ولا للتعامل مع قوى أجنبية”، لا نرددها دعاية ولا تبريرا، ولكنها مواقف تربى عليها الرجال.
العنف ضعف أيها السادة، العنف ذل، العنف ظلم، و“الظلم ظلمات يوم القيامة”، نعوذ بالله من العنف فهو ملمح من ملامح الجاهلية ولازمة من لوازمها، والرفق قوة تتناسب مع تصورنا في نبذ العنف وإن عنفوا علينا، حرصا على أمر الله تعالى وتثبيتا لقدم الاتباع ورجاء الأمن الاجتماعي لهذه الأمة العزلاء.
العاجزون عن تبليغ الدعوة بالرفق يعنفون، العاجزون عن بناء الصف المتين في وضح النهار يعنفون، العاجزون عن التربية والإقناع و التأليف يعنفون، العاجزون عن تحقيق الكفاف الاجتماعي يعنفون، العاجزون عن طرق أبواب القلوب يعنفون، عنفهم ضعف، عنفهم وهن.
“ليس الشديد بالصرعة”كما قال صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه، ليس القوي من ينتهك حرمة المؤمنين والمؤمنات، ليس القوي من يقتحم البيوت الآمنة، ليس القوي من يصد أشكال الإبداع في تربية الأمة، ليس القوي من يقف ضد تيار الحق المتدفق، ليس القوي من يضرب العزل في وقفة سلمية رمزية مرخص لها، لا فرق بينه وبين ذاك الذي يجرب سلاحه المدمر في العزل أو الذي يمطر الشعوب الضعيفة بسيول القنابل… العنف ملة واحدة أيها السادة.. وعقلية واحدة.
القوة الحقيقية موصولة بالله، قوة تتمسك بالقيم، قوة الصبر والنفس الطويل، قوة الصدع بالحق والثبات على المبدإ، قوة بناء الصف المتراص، قوة تربية الشعوب، قوة اختراق فلول المستكبرين بالمبادئ الراسخة، قوة الزحف الرفيق على مواطن الظلم والفساد، قوة تحقيق الكفاف… والثمن رضا الله، والثمن تمكين الله للمؤمنين العاملين: وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا 4 وعد إلهي عظيم تهفو إليه القلوب المؤمنة وتوقن به ومن أصدق من الله قيلا 5 ، لأن الناصر هو سبحانه، والقاهر هو سبحانه، والوكيل هو سبحانه، وتجليات تمكينه سبحانه لا يحجبها إنكار الأدعياء في هذا الربع الغالي من بلادنا المسلمة أو ذاك، إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا 6
أما بعد،
وإن كنا نمج العنف والدماء والإرهاب باعتبارها لا تبني ولا تربي وتناقض جوهر الإسلام الذي يعتمد على الإرادة والنية والحافز الباطني الذي يدفع إلى العمل، وإن كنا ننادي بالحوار والانفتاح على الآخر، فإنما نحن ضد القمع والإقصاء وتكميم الأفواه، نحن ضد الضعف والدعة والذل والانبطاح، نحن ضد من يزيل الشعب عن منبع عزته، ومصدر قوته، وأصيل هويته.
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل