حلف الفضول

إذا منح المولى عز وجل العبد نصيبا من الإحسان والإيقان كان من الشفقة على الخلق، وحب الخير لهم، والحرص على أن يهدي الله به رجلا أو امرأة بحيث يكاد يبخع نفسه أن لا يكونوا مؤمنين. أما المعجب بنفسه المتعالي على أبناء جنسه فيحسب البغض في الله –وهو من الإيمان- أن ينسف الجسور بينه وبين الخلق، ويكفر، ويكفهر في غير مواطن ذلك 7
من نحن ؟
سؤال محوري حول قضية الهوية التي شغلت الأفئدة منذ الهجرة الأولى للمسلمين إلى بلاد الغرب، والتي ظلت ولا زالت عقدة الكثير من الحوارات والنقاشات، فقد أضحى المسلمون المقيمون في أمريكا أو أوروبا لا يدرون بالتحديد أهم أمريكيون أم أوروبيون مسلمون، أم أنهم مسلمون “عرب أو أتراك…” في الغرب. تزكي هذه الحيرة السياسات البعيدة عن العدل والمساواة التي تنهجها حكومات هذه الدول تجاه هذه الفئة من مواطنيها. نتج عن هذا كله وجود قسمين من المسلمين في الغرب:
قسم حبذ “فقه القطيعة”الذي يقسم العالم إلى دار إسلام ودار حرب، وبالتالي يعتبر أي تعامل مع غير المسلمين تواطؤا وذنبا كبيرا لا يغفر، فـآثر العزلة والانقطاع عن المجتمع الذي يعيش فيه، ناسيا أو متناسيا قول الرسول صلى الله عليه وسلم : “المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجرا من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم” 8
وقسم أراد الاندماج في المجتمع الغربي، فانبهر بالتطور التكنولوجي انبهارا جعله يقلد الغربيين تقليدا أعمى لا يفرق في ذلك بين حلال أو حرام، فذاب في المادية “الدوابية” وذابت هويته الإسلامية.
أما الأمر فهو أشد تعقيدا بالنسبة للذين اعتنقوا الإسلام وهم من أصل أوروبي أو أمريكي، فهم بين خيارين : إما أن يهجروا ثقافتهم الأصلية ليصبحوا”عربا” وإما أن يعيشوا في معزل عن المسلمين “المهاجرين” الذين يتشبثون حرفيا بأعرافهم وثقافتهم ويحسبونها جزءا من الدين.
قلق وحيرة مردهما الأساسي لفهم مشوه لتعاليم ديننا الحنيف وابتعاد عن نهج الرحمة المهداة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
حلف الفضول
خبر “حلف الفضول” كما جاء عند ابن هشام هو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : “لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت”
وذلك أن بني هاشم وبني المطلب وبني أسد بن عبد العزى وبني زهرة وبني تيم اجتمعوا في دار عبد الله بن جدعان زمان كان محمد صلى الله عليه وسلم لا يزال غلاما. فتعاهدوا وتعاقدوا أن لا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه وكانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته. فسمت قريش ذلك حلف الفضول. وهو حلف للفضائل والمروءة يحمى بمقتضاه الضعيف والغريب.
في هذا الحلف درس عظيم للمسلمين كي يكنوا هداة مبشرين لا قضاة منفرين. بعث الله سبحانه وتعالى سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم ليخرج الناس من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان بالحكمة والموعظة الحسنة، يخالطهم ويصبر على أذاهم ويدعوا لهم بالمغفرة والهداية، أليس هو القائل:“رب اهد قومي فإنهم لا يعلمون”؟
أليس هو الذي ما فتئ يطلب الهداية لأحد العمرين حتى أسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي كان في جاهليته من العداوة للإسلام بحيث قال من يعرفه : لا يؤمن عمر حتى يؤمن حمار الخطاب، فدخل، رضي الله عنه الإسلام ومعه المروءة العظيمة والمعدن النفيس الذي عرفه تاريخ الإسلام حين توج الدين المروءة ؟
لنتأمل لحظة قوله صلى الله عليه وسلم: “ولو أدعى به في الإسلام لأجبت”. لم يقل صلى الله عليه وسلم، وحاشاه أن يقول ذلك، لن أجيبهم لأنهم كفار آذوني وآذوا أصحابي، بل يجيبهم لنصرة المظلوم والأخذ بيد الضعيف لأنها قضيته وقضية كل من شهد أن لا اله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
بشروا ولا تنفروا
إننا معشر المسلمين قد أنعم الله علينا بأعظم وأجل النعم ألا وهي الإيمان به سبحانه لنكون شهداء على الناسبأن بلغناهم رسالة التوحيد متبعين في ذلك المنهج النبوي الكريم، فقد بعث صلى الله عليه وسلم أبا موسى ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما إلى اليمن وأوصاهما بقوله:“يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا” 9
وروى عنه أنس أنه قال:“يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا” 10
يجب أن نحرر عقولنا من فقه القطيعة الذي يخيم عليها لنؤسس سلوكنا على قواعد التبليغ النبوي ونحمل للناس الدعوة في أسواقهم ومنتدياتهم وقبائلهم وبواديهم وحواضرهم كما كان يفعل محمد صلى الله عليه وسلم.
فقهنا عندئذ يقسم العالم إلى أمة استجابة هم المسلمون اليوم، وأمة دعوة هم سائر الناس والأجناس. المسلمون اليوم فيهم الفتنة ناشبة، والكافرون اليوم لعل منهم أشد الناس عداء “لهذا الشأن حتى يقع فيه”. بيننا وبين هؤلاء المروءة والرجاء أن يهدي الله ربنا بنا رجلا واحدا أو امرأة) 11
لعل في حديثنا عن الأخلاق وحلف الفضول والمروءة ما قد يعتبره البعض نوعا من الاستكانة وتغييب الفريضة الجهادية ؟ كيف نتحدث عن المروءة في غرب تلهج دوله بحقوق الإنسان، لكنها تخرقها في الداخل والخارج ؟ هل نحن المسلمون في الغرب يمكننا أن نعتبر البلد الذي نقيم فيه وطنا لنا أم لا ؟
هل الوطنية كفر ؟
من الجسور التي ينبغي أن نمدها بيننا وبين الناس، ونعتبرها مروءة، ونتعامل على أرضيتها ونتعاون : الغيرة الوطنية. لكن هل الوطنية مروءة أم غل وقيد ؟
من الإسلاميين من يعتبر أي تعلق بما دون الله، ولو ذرة، شرك يتنافى مع صفاء الإخلاص لله سبحانه. ويعتبر الوطنية وحب الوطن عقيدة تناهض الإسلام وتصادمه. هذا منطق من لا يرى في الوجود إلا نفسه مسلما، ويكفر العالم ويجهل ويجحد سنة الله في الخلق، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.فقد قال عند هجرته من مكة يخاطب مكة خطاب الأحباب:“والله إنك لأحب بلاد الله إلى الله وإلي” وقال عن جبل أحد : “جبل يحبنا ونحبه”حب على الهامش النفسي لا ينفذ إلى شغاف القلب حيث لا ينبغي أن يستقر إلا حب الله تعالى وحب رسوله 12
لكن على أرضية الإخلاص للوطن (الذي أقيم فيه) والاعتزاز بخدمته بصفتي عنصرا حيا وفعالا يمكن أن نمد جسورا للتعامل والتعاون مع ذوي المروءات والكفاءات، ونتحالف معهم ونتعاهد حتى يتحقق العدل الذي نحن مأمورون بإقامته في الأرضإن الله يأمر بالعدل والإحسانمقتدين في ذلك بما فعله خير خلق الله صلى الله عليه وسلم مع المشركين في مكة في حلف الفضول.
* مواطنة من بلجيكا
[2] سنن الترمذي وابن ماجة
[3] متفق عليه عن أبي بردة- اللؤلؤ والمرجان (1130)
[4] متفق عليه- المصدر نفسه (1131)
[5] كتاب العدل للأستاذ عبد السلام ياسين ( ص623)
[6] المصدر نفسه (ص608)
[7] كتاب العدل للأستاذ عبد السلام ياسين (ص606 )
[8] سنن الترمذي وابن ماجة
[9] متفق عليه عن أبي بردة- اللؤلؤ والمرجان (1130)
[10] متفق عليه- المصدر نفسه (1131)
[11] كتاب العدل للأستاذ عبد السلام ياسين ( ص623)
[12] المصدر نفسه (ص608)