حافظية المرأة محافظة على العقل

إن العقل من الضرورات الخمس التي لابد منها لتسير الحياة في انسجام تام والتي إن اختلت اختل ما يتبعها من حاجيات وتحسينيات، لذا كان لزاما على كل من يريد أن يحيا حياة منسجمة متسقة ومطمئنة أن يعمل على المحافظة عليه وعدم تخريبه حسيا أو معنويا، وقد وضع الشارع الحكيم تشريعات للمحافظة عليه من جانبين جانب الوجود عن طريق التعلم والتعليم، ومن جانب العدم عن طريق منع وهدم كل ما يمكن أن يكون سببا في الإخلال بالقوة التي وهبها الله للإنسان يكتسب بها ملكة إدراك العلوم وتحصيل المعارف والارتقاء في درجات حب الله ورسوله.
وقبل أن ندخل في صميم الموضوع ونعرف مسؤولية المرأة في المحافظة على العقل أود أن نلقي نظرة على المراد بالعقل المقصود حفظه، المطلوب إصلاحه، المحظور إفساده، ودوره في إخراج العباد من ظلم الجهل إلى نور العلم والإيمان بل الإيقان في موعود الله ووعده؛ موعوده آخرة، ووعده خلافة على منهاج النبوة.
فالعقل عقلان من حيث منبع العلوم واستقاء المدارك؛ عقل معاشي مشترك بين البشر لا يهمه ربانية مصادر معارفه وهوآلة للهوى المتاله، أو للنفس والشهوات، أو للفلسفة والتألهات، يأخذ علومه عن الكون بواسطة الحواس والبديهيات الفطرية ثم بواسطة المنطق الناشئ لديه من استقراء الثابتات والمترابطات والمستلزمات) 13 وهذا ليس موضع الحديث عنه، وإنما المراد بالعقل هنا ذلك العقل الذي أشاد به القرآن هو العقل الذي يتفكر في الخلق، يتفكر في أن لابد للصنع العجيب الذي تشاهده الحواس من صانع وهو الملكة التي يستدل بها المتفكر، اعتمادا على مسبقات مغروزة في الفطرة على أن هذا الصنع العجيب لا يمكن أن يكون صانعه الضروري عابثا، وكذلك هو العقل الذي يؤمن ويهتم بالمصير الشخصي بعد الموت لأن الموت من المعطيات الكونية العامة المندرجة في النظام العجيب، المثيرة أكثر من غيرها للسؤال المحوري هل كل هذا عبث) 14 فالعقل الراشد هو العقل القرآني الذي يسمع نداء الإيمان فيسابق للاستجابة، ينظر في ملكوت الله فيزيد اطمئنانا وإيقانا في عظمة الله وقدرته في خلقه، وبديع صنعه في كونه. فيصبح آلة للقلب يخدم تطلعاته إلى خالقه وكمال العقل الآلة أن يخدم القلب وتطلعاته خدمة متزامنة متساوقة مترابطة هنا وهناك، هنا في الكون حيث يشترك مع كافة البشر في طريق تحصيل علوم الكون، وهناك وراء سجن الغيب من حيث لا تتأتى له معرفة إلا باستماعه للوحي) 15 إن العقل في منظور الشرع أساس لفهم خطاب الله ورسوله والأمة جمعاء وعليه يتوقف التكليف بالأحكام الشرعية، وكذلك دليل الوصل والقرب عن طريق عملية التفكر التي يقوم بها. وأكثر من هذا فالعقل المؤمن أداة لفهم الأمور الغيبية وتصديقها إذ هو الذي يجعل صاحبه يسلم بالأمور التي ربما كانت فوق وسعه عكس ما هو رائج بأن الغيبيات معاني وأحاسيس لا دخل للعقل بها، لكن إذا كان عقلا معاشيا قطعا لن يقبلها…
ورغم أن العقل شرط في معرفة العلوم، وكمال الأعمال وصلاحها، وبه يكمل العلم والعمل، لكنه ليس مستقلا بذلك إنه مجرد غريزة في النفس وقوة فيها، بمنزلة قوة البصر التي في العين، فإذا اتصل به نور الإيمان والقرآن، كان كنور العين إذا اتصل به نور الشمس والنار، وإذا انفرد بنفسه لم يبصر الأمور التي يعجز وحده عن دركها، وإن عزل بالكلية كانت الأقوال والأفعال مع عدمه أمورا حيوانية، فالأحوال الحاصلة مع عدم العقل ناقصة والأقوال المخالفة للعقل باطلة) 16 وبما أن العقل يكتسي هذه الأهمية في حياة الإنسان الذي اختار أن يكون عبدا لله، خاضعا لأمره، منتهيا بنهيه باحثا عن أعلى المعاني الإحسانية، فقد عني الله به ووضع له تشريعات كفيلة بنماءه ونضجه من جانب الوجود، وبحفظه من الإضعاف والإزالة من جانب العدم، فجعل من الأمور المطلوبة من كل رجل وامرأة تعلم العلم تمرينا للعقل على إدراك الحقائق وعمقها.
فالعقل مدخل الإيمان لذلك ركز الإسلام على قيم التفكر والتدبر والتأمل والاستبصار وأخذ العبرة فكانت أول آية نزلت في القرآن تدعو إلى القراءة يعني تدعو إلى العلم والمعرفة قال تعالى :اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علقفأمر الله بالقراءة مع الابتداء باسم الله وهو علم غيبي، ثم قدم له حقائق علمية عن بداية الخلق وهو علم كوني.
وبما أن الرجل يتربى في حضن المرأة، فإن مسؤوليتها في حفظ عقلها وعقل أطفالها أكثر ثقلا لذا فواجبها التعليمي والتربوي يطالبها بالحرص على كسب مجموع فريد من العلوم التي تكون لها عونا على القيام بمهمتها على أكمل وجه سواء أكانت علوما شرعية دينية أو كونية دنيوية . إذ العقل الكامل يأخذ من الوحي ما هو من عالم الغيب ويأخذ من المدارك المشتركة ما هو من عالم الشهادة والأم الجاهلة إمامة ضياع وامتداد لبؤس الأمة) 17 فالمؤمنة تستجيب لنداء ربها وتساهم في بناء مستقبل أمتها مستنيرة بنور العلم، علم الخطوة لا علم الخطبة، العلم النافع الذي تجد ثمرته في قلبها فيملأ القلب إيمانا وتصديقا، ويدخل العقل فيملأ تدبيرا وتفكيرا ويقينا.
كمال المرأة العلمي يكمن في الجمع بين طلب علم الوحي وعلم الكون، طلب علم الكون ليكون إماما ومرشدا لعلوم الكون، وليكون السير بهدف تحصيله جهادا، ولتكون المشقة والصبر على امتلاكه طريقا إلى الجنة. قال عليه الصلاة والسلام:“من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة” 18 وأول شئ تحرص المؤمنة على تعلمه هو كلام الله وما يتفرع عنه من علوم الدين والدنيا وكل ما تحتاج إليه من أمور خاصة تعينها على إقامة دينها ودنياها تأسيا بمن سبقنها من النساء المؤمنات اللاتي أتين الرسول صلى الله عليه وسلم يسألنه أن يجعل لهن يوما خاصا بهن دون الرجال الذين غلبنهن في النهل من كلام خير الأنام، فاستجاب لهن وخصص لهن يوما فوعظهن وأمرهن وفقههن في أمورهن الخاصة. طلب العلم واستكماله هو النور الذي به تكون المؤمنة حية بين أموات، بل تكون ميتة إن لم تكن بنيتها النفسية والعقلية مؤسسة على قاعدة طلب العلم من المهد إلى اللحد.
فمن كمال توبتها أن تنزع عن نفسها رذيلة الجهل وأن تتجمل بالمعارف الشريفة دينية أو دنيوية كي لا تكون من الذين طبع الله على قلوبهم بسبب عدم العلم قال تعالى :كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون 19 فحياة القلب مقتصرة على العلم الروحي، وحياة الأمة مقتصرة على العلم الكوني إذ لامسكن للأمة على وجه الأرض ولا مستقبل لها إن لم تجاهد وفيها عبقريات المؤمنات لاكتسابها وترويضها والتسلح بها، عريانة أمة ليس لها قدم تزاحم الأقدام في هذه المواطن جوعانة، عزلاء، نكرة، بلهاء، غثاء) 20 فالمعارف الكونية قوة تعمل المؤمنة على اكتسابها مساهمة منها في الجهاد من أجل نصرة الدين.
هكذا تكون المرأة قد حافظت على عقلها ومن ثم تستطيع الحفاظ على عقل أطفالها عن طريق القيام بمهمتها التعليمية التربوية، وتمرير ما تعلمته لهم وتشجيعهم على اكتساب علوم العصر. تبث فيهم روح حب العلم بنوعيه الغيبي أولا لأنه سلاح الفوز بالآخرة، ثم الكوني لأنه سلاح الفوز بالحاضر والمستقبل. قال عليه الصلاة والسلام :“أفضل الصدقة أن يتعلم المرء علما ثم يعلمه أخاه المسلم” 21 فبمفهوم الموافقة يكون تعليم الأم العلم للأبناء من باب الصدقة، والصدقة في المقربين أولى. والأمر يصبح أجل إن كان هذا العلم إيمانا يقيهم من نار الدنيا والأخرى، وقرآنا إلى الجنة رفيقا وإلى الخيرات كلها دليلا وإماما. علم القرآن، حفظ القرآن، وفهم القرآن أول ما تعمل المؤمنة على تعليمه. فالقرآن محور العملية التربوية ومورد العلم، وجامع العلوم لا سيما في السنوات التسع الأولى، من القرآن يتعلم الأطفال القراءة والكتابة ومنه يتضلعون في اللغة، نحوها وصرفها وبلاغتها) 22 وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى بعض الأسس التي يجب اتباعها في صنع الإنسان الصالح المؤمن فقال:“أدبوا أولادكم على ثلاث خصال، حب نبيكم، وحب آل بيته، وتلاوة القرآن”حب النبي يكون بدراسة سيرته واتباع سنته والإكثار من الصلاة عليه. وحب آل بيته تكون بمعرفة مدى تأسيهم به في علاقتهم مع النفس والحق والخلق. والتعليم في الصغر أشد رسوخا وهو أصل لما بعده. ومهمة المرأة أن تربي أطفالها التربية الإيمانية الإحسانية العلمية الجهادية وتبث في عقولهم روح العمل الصالح والصدق والصبر حتى لا يكونوا من أهل الخسران. وتوجههم إلى التفكير الصحيح منذ الطفولة، وتستمر على ذلك في كل مرحلة من مراحل نموه حتى يصبح قادرا على التحصيل بعد أن فاز بالتحصين الذي لقنته أسسه. وقد أثبت علماء النفس أن عملية تغذية العقل الإنساني تبدأ باكرة عن طريق الحركات والإشارات. وتنتقل إلى الكلمات حتى يصل الطفل إلى مرحلة الطفولة الوسطى، ومنها إلى سن التمييز والإدراك.
ومن ثم فإن هذه العملية تكون من واجب الآباء وبالخصوص الأم فهي المعنية بتكوين فكر الطفل وتزويده بمختلف العلوم بعد أن تلقنه اللغة التي تعتبر أداة اتصال وربط وتفاهم بين الطفل وبيئته اليومية، فتصبح لديه القدرة على التفكير السليم في المستقبل، فيحسن الحكم على الأشياء مستعينا بخبراته ومستفيدا من خبرات الآخرين. تعلمه كيف يتعلمالربانية من أهل الربانية، والعلم من أهل العلم، والحكمة من أهل الحكمة، والهمة الجهادية من أهل الهمة) 23 فالهدف الأسمى للتعليم هو الهدف الديني في المقام الأول، وهو التربية والتهذيب الخلقي والتقرب إلى الله لذا يقول الغزالي :على المعلم أن ينبه المتعلم على أن الغرض من طلب العلم التقرب إلى الله تعالى دون الرياسة والمباهاة ومهما كان الأب يصون ولده عن نار الدنيا فبأن يصونه عن نار الآخرة أولى، وصيانته بأن يؤدبه ويهذبه ويعلمه محاسن الأخلاق) 24 هذا بعض ما يتعلق بحفظ العقل من جانب الوجود،أما حفظه من جانب العدم فنجد الشارع قد حرم كل ما من شأنه أن يكون سببا في إفساده سواء أتعلق الأمر بالخمور والمسكرات أو بالعلوم التي تعود على العقل بالهدم والتدمير والخسران في الدنيا والآخرة.
وإذا كان كل مسكر حرام على كل مؤمن، فالأمر أشد تحريما عندما يتعلق بالأم لأن الفساد لا يقتصر عليها والضرر لا يلحقها فقط بل يتعدى إلى فلذات أكبادها التي تحملهم في أحشاءها فيتغذون مما تتغذى، ويسقون مما تسقى. والأمر لا يحتاج إلى كثير استدلال إذ العلماء أفاضوا في إثبات حقائق علمية تبين مدى تأثير الخمور والسجائر على صحة الأجنة،والأم المؤمنة التي تعرف عظم مسؤوليتها أمام الله واتجاه أولادها هي التي تعمل على ملاحظة كل ما يؤثر على نمو عقولهم وذاكرتهم واتزانهم ومتابعتهم وتعليمهم المقاصد والحكم التي من أجلها حرم الله الخمر والميسر وما يلحقهما ويشاركهما في العلة.
كما يجب عليها أن ترشدهم إلى مدى خطورة أفلام الخلاعة والأغاني المصورة الماجنة والمشاهد البذيئة والمخلة بالحياء والبرامج التي تحمل السم لإفساد عقول الشباب وسلوكهم، وغسل أدمغتهم والتي أصبحت تغطي شاشات التلفاز ومواقع الإباحة على الانترنيت، ويجب عليها أن تبحث مع أخواتها اللاتي يشاركنها الهم نفسه عن الحلول الناجعة والوسائل المفيدة والبدائل القوية حتى تستطيع الوقوف أمام هذا الطوفان ليكون شباب الأمة على المستوى الذي يرضاه الله وترضاه الأمة والأم معا.
[2] الإحسان للأستاذ عبد السلام ياسين 2ص27بتصرف
[3] محنة العقل المسلم ص7
[4] مجموعة الفتاوي لابن تيمبة ج3 ص 210
[5] تنوير المؤمنات للأستاذ عبد السلام ياسين ج 2 ص 65
[6] رواه أبو داود والترمذي
[7] سورة الروم آية 41
[8] تنوير المؤمنات ج2 ص65
[9] رواه ابن ماجة في مسنده
[10] تنوير المؤمنات ج2 ص 260
[11] سنة الله للأستاذ عبد السلام ياسين ص260 بتصرف
[12] إحياء علوم الدين للإمام الغزالي ج1 ص 12-13
[13] محنة العقل المسلم للأستاذ عبد السلام ياسين ص 7ـ8 بتصرف
[14] الإحسان للأستاذ عبد السلام ياسين 2ص27بتصرف
[15] محنة العقل المسلم ص7
[16] مجموعة الفتاوي لابن تيمبة ج3 ص 210
[17] تنوير المؤمنات للأستاذ عبد السلام ياسين ج 2 ص 65
[18] رواه أبو داود والترمذي
[19] سورة الروم آية 41
[20] تنوير المؤمنات ج2 ص65
[21] رواه ابن ماجة في مسنده
[22] تنوير المؤمنات ج2 ص 260
[23] سنة الله للأستاذ عبد السلام ياسين ص260 بتصرف
[24] إحياء علوم الدين للإمام الغزالي ج1 ص 12-13