بين ثنايا تاريخ العلم

يحكى أن جل حومات مدينة فاس كان فيها دور لتعليم البنات القراءة والقرآن و الكتابة، وفيها معلمات صالحات، زيادة عن دور تعلم الصنائع اليدوية الرقيقة المتنوعة تعليما ممزوجا بأداب المنزل، وكان في كل درب منها عدد ليس بقليل… نقول عن تحقيق أن جل بنات فاس كن يتعلمن الصنائع ويتهذبن، وكثير منهن يتعلمن القراءة و الكتابة ولا يبقى دون تعلم إلا.. زهيد جدا. وهكذا كانت معظم حواضر المغرب إلا ما قل.
“فاطمة بنت محمد العبدوسي” واحدة من بنات فاس التي نبغت نبوغا فائقا مثل الرجل أو أكثر. فكانت كعبة علم وأدب ودين فضل وزهادة محجوبة لطلاب العلم والآداب. كانت هذه السيدة واحدة من النساء الفاسيات التي عرفت بالفقه والفتوى فكانوا ينادونها بالفاسية الفقيهة المفتية توفيت سنة 866. تربت رحمها الله تربية مزدوجة تقوم على دراسة العلم الدنيوي والديني، فلزمت الكتب والمدارس والأشياخ للتدبر والدراسة والتفقه في الدين كما لزمت مجالس عدة لتتنور بكتاب الله، وحظيت بالعلم الوافر. درست وخصصت من وقتها الكثير للقراءة والتدبر والاستماع والبحث المستمر، ذلك لأنها تعلم أن أول خطاب نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم : “اقرأ باسم ربك الذي خلق” سورة العلق، الآية2. وهو خطاب لم يكن خاصا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما كان موجها إلى سائر أمته دون استثناء أو فصل بين رجل وامرأة، كما لم يكن عبثا أن يجعل الله هذا الخطاب أول كلامه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا الأمر الإلهي بالقراءة والتعلم غاية الدلالة على الله تعالى وشرعه، فتحقيقا لهذه الغاية كان لا بد للمرأة المسلمة من تخصيص جزء من يومها لتحصيل العلم الذي يعينها على أداء وظيفتها الاستخلافية والتغييرية.
فهذه سيدتنا الصحابية الجليلة أم هشام بنت حارثة بن النعمان تقول : ” والله ما أخذت ( ق والقرآن المجيد ) إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب في الناس”.
هكذا كانت النساء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغبن في العلم والتعلم، وسارت على هذا الدرب “فاطمة بنت محمد العبدوسي”.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو : ما بال المرأة المسلمة اليوم تعرف عزوفا حقيقيا إن لم نقل كاملا عن التعلم ومجالس العلم ؟
ثم ما هي المجالات التي تعد من أولويات التعلم بالنسبة لها ؟
لا يخفى على المرأة أن العولمة غزت العالم، حيث أصبحت شبكة الأنترنت إحدى أكثر الوسائل المستعملة عند الإنسان. لكن، إذا أردنا أن نضع الموضوع في قالبه الصحيح، فإننا نربط تأخر المرأة وتراجعها في عدة مجالات بالتأخر الذي تعرفه الأمة الإسلامية جمعاء.
لما كان الإسلام متقدما زاهرا، كانت المرأة عالمة كاتبة، طبيبة، شاعرة، ولما عرفت الأمة التأخر،كان في صفوف النساء أكثر وأظهر. فانحطاط المرأة في عصرنا وعزوفها عن عدة مجالات مرتبط بانحطاط الأمة، وانحباس مجال حركتها، مرتبط بانحباس الفقه…فقد ساد فقه الذرائع فانكمشت المرأة وانحبس مجال حركتها خوفا من الفتنة والفساد، وغاب فقه المقاصد.
نجد نموذجا لهذا الفقه المنحبس عند ” القاضي” في “أحكام القرآن” حيث يقول : “ولقد دخلت نيِّفا على ألف قرية من بريَّة, فما رأيت نساء أصون عيالاً، ولا أعفَّ نساءً من نساء نابلس التي رُمي فيها الخليل عليه السلام بالنَّار، فإنّي أقمت فيها أشهراًن فما رأيت امرأة في طريق نهاراً، إلاَّ يوم الجمعة، فإنهنَّ يخرجن إليها حتى يمتلئ المسجد منهنَّ، فإذا قُضيت الصلاة وانقلبن إلى منازلهنَّ لم تقع عيني على واحدةٍ منهن إلى الجمعة الأُخرى. وسائر القُرى تُرى نساؤها متبرِّجاتٍ بزينةٍ وعُطْلَة ٍ، متفرِّقاتٍ فِي كلِّ فتنةٍ وعُضْلَةٍ . وقد رأيت بالمسجد الأقصى عفائف ما خرجن من مُعتكَفِهِنَّ حتى استشهدن فيه ” !
يعلق الأستاذ عبد السلام ياسين على هذا الكلام قائلا : “إن الواقع السائب لا يرى له الفقيه المشاهد علاجا إلا إغلاق الأبواب من الجمعة إلى الجمعة. واقع القرى المتبرجة افزع الفقيه فلا يجد في الأماكن صلاحا للمرأة إلا في سجن المرأة، ولا ضمانا لعفتها إلا في تغييبها عن الأنظار، وهكذا لا حاجة لغض البصر…”
وبمنطق سد الذرائع والخوف من الفتنة ذهب بعض العلماء إلى منع تعليم المرأة لأنه يفسد أخلاقها ويفتح عليها أبواب الشيطان… فأكثر الفساد جاء من المتعلمات بالنسبة لهم! في حين إن رجعنا إلى سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم نجد أن القراءة والكتابة والعلم والتعلم كانت هي إحدى المحاور المهمة، لهم منها أوفر الحظ، والمرء إذا التزم بها فإنه بإذن الله يهتدي إلى كل خير.
مُسَلَّمة لا شك فيها، أن الإسلام لا يربط علما بذكر أو أنثى ولا يفرق بين علوم الدين وعلوم الدنيا، بل أوصى بها جميعا، وجمع علوم الكون في آية واحدة قال الله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ. وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ. إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ، لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) سورة فاطر، الآية : 27-28
العلم بالله ينير سبل تعلم العلوم الكونية ويسند المسلمة في تعليمها في كل المجالات فتتفوق وتنفع نفسها والمجتمع لتحقيق سعادة الدارين…