الفن البوصلة

مع بداية الموسم الصيفي يزداد المشهد الفني ببلادنا حرارة، فتفتح البرامج الغنائية أبوابها لاستقبال مشاريع “النجوم” من فئة الشباب كما تتناسل المهرجانات الغنائية التي تتوافد عليها “المشاهير” من كافة أصقاع المعمور، كل هذا يجعل المشهد الفني ببلادنا يأخذ من كل فن بطرف ! لكن هل يَظل الفن ببلدنا طرفا رئيسا في خضم هذا الزخم المتعدد الوصلات والتقسيمات ؟ ثم أية رسالة تحملها هذه المهرجانات لمجتمع صادرت السياسات الفنية المتتالية ذوقَه وأصالةَ شَدْوه وتغنيه مثلما صادرت حقه في العيش الكريم؟
إغراق فني سافر
فالقائمون على الشأن الفني يُمْعِنون في ابتذال الأذواق، حين يفرضون قوالب فنية دخيلة توشك أن تجتث الجذور والهوية الأصيلة للمخزون الحضاري والثقافي والإنساني للفن المغربي. وفي عُرف هؤلاء، يُعتبر” نغمة نشازا” كلُّ من شذّ عن قواعد التقسيمات الفنية والترانيم والإبداعات الحالمة بالتميز، والرامية إلى إضفاء بعض المساحيق الأخاذة على” المشهد الفني” المترهل لبلدنا. ولن يكفينا الحديث عن المهرجانات الغنائية التي تشد الرحال عبر المدن المغربية مستنفذة ما تبقى من الميزانية المخصصة “للمشهد الفني”، ولا عن “المشاهير” الذين أفاضت جرائد الفضائح في تقريب خفايا مرورهم الكريم، ويكفي هوانا أنهم يتخذون من شباب المغرب سوقا رائجة وقابلة للإغراق “الفني”ـ مع التحفظ في المصطلح لأن ما اصطلح عليه أهل الفن أرقى ذوقا وأعمق رسالة ـ شأنها في ذلك شأن الإغراق الاقتصادي والاجتماعي والسياسي… و لن يكفينا الحديث عن الفرَق التي تتهافت على بلدنا لتعرض صخبها و مجونها في الساحات العمومية فرحا بما جادت به صفقات “النهوض بالشأن الفني”، كما لن تكفينا الادعاءات التي يُلوّح ُبها، مِن كَون “السماع” و”الموسيقى الروحية” لهما جذور مشتركة مع أنواع موسيقية عالمية بعيدة عن جمال الروح اعترافها بجميل الخالق و الأمين مُبلِّغ خير رسالة، تلك التوافقات المزعومة أعلنت فشلها في مهدها الأصلي لارتباطها بتعاطي المخدرات وقيامها على طقوس غريبة مُرْبية تضرب الأخلاق في العمق ! لن يكفينا كل هذا وغيره لنَخلُص جازمين أن الفن في وادي و سياسة الفن في بلدنا في واد آخر، هذا إن تشرفت باسم الفن. إذ يراد للفن أن يصبح مرتعا لأهواء بعض المضاربين، بعيدا عن كل رسالة إنسانية نبيلة تسهم في إصلاح ما أفسده القهر والعسف وابتزاز أذواق الأفراد.
صفقات فنية وصفعات اجتماعية
إن ما يفسر تهافت مُدراء المهرجانات العالمية والمحلية داخل بلدنا هو الأرباح الخيالية التي يتقاسمونها مع الأخطبوط الاقتصادي المحلي، الذي يعتبر الفن غنيمة يستأثر بها خلسة ويوظف منتجاتها ومبيعاتها كاستثمار حقوق البث الإذاعي والتلفزي لحساباته الخاصة.
لذا فهو يجند لها كل “الفاعلين” من منتجين وإعلاميين وموزعين ويرصد لها اعتمادات مالية ضخمة، حيث إن بعض المهرجانات تفوق ميزانيتها ملايين الدولارات كما هو الشأن لمهرجان مدينة الصويرة مثلا لا حصرا.
في حين تجني الجماهير الساذجة الاستهتار بحقها في فن راق، بل حقها في مشاريع فعلية تسهم في تنميتها الاقتصادية والاجتماعية، فهي عكس ذلك تؤدي فاتورة الفرجة العابرة من خلال ارتفاع الأسعار وغلاء الإيجار والإيواء بالفنادق التي تحج إليها الفئات المترفة وطنيا ودوليا، بينما تتداعى سائر فئات المدن المحتضنة لهذه التظاهرات “الفنية” على الفُتات من خلال المهن والحرف والخدمات وليدة المناسبة : جموع غفيرة من المتسولين وماسحي الأحذية ومنظفي السيارات وحراس المواقف وحاملي الأمتعة وسماسرة الأكرية…إلى آخره، قاسمهم المشترك هو البحث عن لقمة العيش قبل أن يسدل الستار على الكعكة الفنية.
ناهيك عن مئات من الطيور الجريحة من شباب مغربنا الحبيب المكتوين بلظى العطالة والتفقير وهُم يستظلون بمنصات هذه المهرجانات، فإن تغنوا فبآلامهم وخيبة أملهم، وإن رقصوا فليترجموا صنوف اليأس الذي رمى بهم في مثالب الانتحار والمخدرات والهلوسة أو جعلهم فريسة لشبكات الإرهاب والتطرف، حتى تكاد أصواتهم وأجسادهم تقرع مسامع سدنة المشهد الفني بهذه الرسالة البليغة:
لا تحسبوا رقصي بينكم طربا
فالطير الجريح يرقص من شدة الألم
الفن البوصلة
ما أحوجنا اليوم إلى فن بوصلة تستوي بإبداعاته الأذواق المكلومة، لأن الجرم الحقيقي هو أن يصبح المشهد الفني بهذا البلد مرتعا للصخب والمجون وفرصة لتبذير المال العام في ورشات موسمية لا تأتي بأي جديد لطوابير المعطلين والمتشردين والمحتاجين.
ما أحوج مجتمعنا إلى فن لا يتسامى عن واقعه وبيئته، يوم لا يرتفع عنه بشطحاته ليعاود النزول ولا شيء قد تغير في هذا الواقع المتردي !
فالفن الذي يغدوه حب الله تعالى و خشيته و حب نبيه الكريم سلوكا و اقتداء رسالة ترقى بالذوق وتسمو بالنفس وتطهرها، ولا نستثني الرسائل الإنسانية البانية التي لها أصل في كل جميل، وبه تكون بلسما لكثير من العلل النفسية و الروحية التي تعاني منها مجتمعات اليوم، سيما و لغة الماديات قد طغت فبلّدت المشاعر و الأذواق وخربت العقول والأجساد. كلنا يذكر في نفسه الآن أصواتا مميزة تغنت بالقضايا الإنسانية عامة والمجتمعية خاصة، فترسخ صداها لدى الجماهير العريضة، وأصوات أخرى تغنت فأورثت القلوبَ حب فن يسمو بالنفس ويرتقي بها من غياهب الفراغ الروحي إلى مدارج الأنس بالخالق سبحانه وإلى مجاورة محابه، والتأسي بحبيبه صفوة الخلق عليه أفضل الصلاة والتسليم وإلى محبة خلق الله كافة ودعوتهم لرسالة الرحمة المهداة، أصوات تتغنى بالجمال لتزهر البسمة في القلوب بشارةً تعد بقرب انبلاج الفرج من غمة هذا العالم المُدلَهم !
وإلى أن تصفو مقامات التغني من قرع صولجان سدنة المشهد “الفني” بهذا البلد لتصبح مقامات تحيي الهمم وتوقظ قلوبا غلفا، وإلى أن ينزل الفن “الروحي” من قبته العاجية التي أرغم على المكوث بها ليزهد في رسالة التغيير، يظل الفن بوابة رحبة للدعوة إلى الله عز وجل ومنبعا لاستشعار الجمال، ورحيقا ترتشف منه كل الأذواق التواقة للانعتاق من قيود البشاعة والقتامة الجاثمة على النفوس والقلوب.