الإسلام عدل وإحسان

من المثير للانتباه والجدير بالتفكر في القرآن الكريم، أن توجد آيتان فقط ترد فيهما عبارة إن الله يأمر، وفي كلتيهما أمر صريح ومباشر بإقامة العدل بين الناس: أولاهما هي من سورة النساء حيث يقول الله عز وجل: 9 إن الله يامركم أن تودوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل. إن الله نِعِمَّا يعظكم به. إن الله كان سميعا بصيرايأمرنا الله تعالى في هذه الآية أن نرد الأمانات إلى أهلها وأن نحكم بالعدل بين الناس كيفما كانوا مسلمين أوغير مسلمين. الثانية من سورة النحل، حيث يقول الله سبحانه وتعالى: 10 إن الله يامر بالعدل والاِحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي. يعظكم لعلكم تذكرون يأمر فيها سبحانه بالعدل والإحسان، ويوصي فيها بالأقارب لأن الأسرة هي اللبنة الأساس في المجتمع المسلم. فالعدل أمر إلهي ليس في الإسلام فحسب، بل وفي غيره من الرسالات. ولا شك أن العدل مبتغى البشرية جمعاء ومطلبها منذ فجر التاريخ، من أجل ضمانه للمجتمعات الإنسانية ناضل المناضلون، ووهب أصحابُ المروءات والهمم العالية الغالي والنفيس.
ولكن هل العدل في الإسلام غاية في حد ذاته؟ أم أن من ورائه غاية أخرى هي أسمى وأرقى؟
برجوعنا للقولة المشهورة للصحابي الجليل ربعي بن عامر: الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام) نفهم أن إقامة العدل هدف إسلامي لتحقيق غاية أسمى، إنه شرط ضروري لتبليغ رسالة الرحمة وتحرير رقاب العالمين. ونفهم أن الله عز وجل قرن في الآية الكريمة:إن الله يامر بالعدل والاحسانلأن العدل شرط لتحقيق الإحسان.
العدل والإحسان إذن غايتان ساميتان عليهما وحولهما مدار ديننا الحنيف، وكل ما في كتاب الله عز وجل وسنة حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم من أوامر ونواهي ومبادئ، يدخل في إطار تحقيق هاتين الغايتين.
فما العدل ؟ و ما الإحسان ؟ وكيف يكون العدل شرطا لتحقيق الإحسان ؟
1- العدل
العدل قيام بالقسط بين الناس، وحكم بينهم بالحق، العدل قسمة عادلة في الرزق وإعطاء لكل ذي حق حقه.
العدل كسر لكل أغلال الظلم ونصر للمستضعفين، العدل تحقيق لقول الله عز وجل في الحديث القدسي:“يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا
“العدل أمر إلهي خالد لأجله أرسل الله رسله وبه أنزل كتبه: “لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط” الحديد الآية 25.
وإذا كان العدل قيمة إنسانية تجمع البشرية على ضرورة السعي لتحقيقها، فما الإحسان ؟
2- الإحسان
لفهم معاني الإحسان نستمع لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المروي في صحيح مسلم عن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ذلك الحديث الحدث الذي استدعى نزول سيدنا جبريل من السماء في صورة رجل لا يعرفه أحد من الصحابة رضي الله عنهم:“بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لايرى عليه أثر السفر ولايعرفه منا أحد…”هكذا وصفه سيدنا عمر رضي الله عنه، نزل ليعلمنا ديننا في أروع وأبهى وأرقى طرق التعليم: حوار بين المعلم والمتعلم غاية في الأدب والاحترام والتصديق:“حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخضيه وقال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام… فلما أجابه قال: صدقت قال (سيدنا عمر) فعجبنا له يسأله ويصدقه…”وبعد أن أخبره عن الإسلام وعن الإيمان وعن أركانهما، سأله عن الإحسان فأجابه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا:“الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك”الإحسان إذا مراقبة دائمة لله تعالى، ودوام لذكره واستحضار لمعيته، الإحسان عبادة لله عز وجل على كل الأحوال وفي كل الأوقات، الإحسان تحقيق لقول الله سبحانه:قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين 11 الإحسان إخراج للإنسان من ظلمات الجهل بالله إلى نور معرفته، إنه حض له على السير على مَدرَج الإيمان للوصول إلى رضى الله تعالى والنظر إلى وجهه الكريم.
من معاني الإحسان أيضا الإحسان إلى الناس كالفقراء والمساكين، ومواساة للمحتاجين، والعناية بالأقربين: وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا 12 وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا 13 الإحسان إتقان للعمل استحضارا لرقابة الله تعالى، أخرج البيهقي عن سيدتنا عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه”.
مجموع هذه الدلالات يعطينا مواصفات المؤمن الصالح في نفسه وخلقه وتعامله مع المجتمع، بالإحسان في عبادة ربه يطيب قلبه وتصلح نواياه وأفعاله فيكون للخلق رحمة.
الإحسان رسالة الإسلام وثمرته ونداؤه لكل إنسان. لكن، هل يسمع ذلك النداء ويستجيب له إنسان لا أمن له على حياته المادية الآنية ولا أمل له في تحسينها؟! هل يقبل تلك الدعوة من لا أمن له في سربه، ولا عافية في بدنه، ولاضمان لقوت يومه؟ هل يسمعها من يسهر خوفا أو مرضا أو جوعا؟!
إقامة العدل إذن بداية الطريق إلى الإحسان، وتحقيق الأمن والعافية والكفاية، وهي جماع أمور الدنيا كما جاء في الحديث النبوي الشريف الذي أخرجه الترمذي وغيره عن سلمة بن محصن الأنصاري عن أبيه قال الحبيب صلى الله عليه وسلم:لا يستوي القاعدون من المومنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى، وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما، درجات منه ومغفرة ورحمة، وكان الله غفورا رحيما 14 لهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:“من أصبح وهمه غير الله فليس من الله في شيء، ومن لم يهتم للمسلمين فليس منهم” 15 وبه لا يكون السعي والجهاد لإقامة العدل بين الناس، مجرد سعي دنيوي لتحقيق الرخاء والاستقرار المادي فحسب، بل يصبح هذا السعي طاعة لأمر الله، وتحقيقا لحكمه وقضائه بين عباده، ويكون الانخراط في سلك من حملوا على عاتقهم تحقيق أمر الله في عباده والقيام بينهم بالقسط، استجابة لنداء الله عز وجل.
وما وصلت الأمة الإسلامية إلى ما هي عليه من استضعاف، وما أصبحت غثاءً كغثاء السيل إلا حين تمكَّن الوهن من أفرادها فأحبوا الدنيا وكرهوا الموت، وانغمسوا في حضيض مشاكلهم اليومية، وانصرف كل واحد إلى شأنه الخاص يعاني في صمت.
إن هذا لهو موطن الداء وإنها للعلة التي إن رُفِعت وشفيت، تعافت الأمة. فلن نكون حملة رسالة الله إلى العالم، ولن نعيد النموذج الحي الناجح للفرد السعيد والأمة المهيبة، كما كنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، إلا إذا اقترن في أذهاننا مصيرُنا إلى الله في آخرتنا بمصير أمتنا، وتوحد في قلوبنا همُّ السباق إلى مغفرة الله وجنته ورضاه، بهَمِّ الجهاد في سبيله لتكون كلمة الله هي العليا في الأرض.
إنه المنهاج النبوي المتوازن الذي تربى عليه الصحابة والصحابيات الكرام في المدرسة المحمدية فكانوا رهبانا بالليل وفرسانا بالنهار، كانوا جنودا يقتحمون العقبة ويذللون الصعاب وهم من وراء الصعاب مع الله، كانوا رجالا بذلوا النفس والنفيس لإقامة العدل وبناء دولة القرآن لم يدفعهم لذلك سوى سعيهم الدائم إلى الله، دافعهم كان طلب الكمال والزلفى والاصطفاء، طلب وجه الله تعالى.
وشيئا فشيئا، وبعد انتقاض عرى الإسلام عروة عروة بدءا بالحكم، ذهب العدل وذهب الإحسان وساد الفهم القاصر للإسلام، فأصبح مقرونا في ذهن الناس بالتقوى الفردية والمنابر الوعظية والخلافات الفقهية بعد أن تشتت الفقه وتجزأ وانحسر عن الميادين الحيوية المرتبطة بواقع المسلمين من اقتصاد وإدارة وسياسة وحكم…
لكن الأدهى من ذلك كله، أن الناس طالما ظنوا أن ولوجَ هذه الميادين والإهتمام بشأن الأمة، وفضلَ الجهاد حكرٌ على الرجال. فظلت المرأة قابعة في بيتها، نافضة يدها من أمر أمتها وخالٍ بالُها من همِّ بناء مجتمعها، بينما هي الأس والأساس، عليها يقع العبء الأكبر في بناء غد أفضل، وعليها يتوقف بناء الأمة أو هدمها.
فإن كان واجبا علينا، نحن أفراد الأمة الإسلامية، أن نحمل هم هذه الأمة ونعيد لها عزتها، فهو واجب آكد على المرأة. كيف لا وقد كلفها الله سبحانه وتعالى بمهمة تاريخية: تربية النشء وصناعة الأجيال. وما أحوجنا وما أحوج أمتنا لنساء حُضنُهن مدرسة تتسامى بتخريج بنين وبنات ينشأون النشأة الإيمانية الحقة، يشتد ساعدهم بها فهم لا يفرطون في شريعة الله، ولا يرضون هوانا في دين الله، ولا يتخلون عن أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ما أحوجنا لنساء لا يفصلن بين هموم ولدهن وأسرتهن وهموم أمتهن، نساء مؤمنات همهن الله تعالى والمصير إليه، وهدف عمرهن أن يضعن لبنة في صرح بناء الأمة فتحسب لهن جهادا.
ما أحوجنا لإحياء سنة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي أعاد الاعتبار للمرأة وحوَّلها من مخلوق يوأد ويورث، إلى امرأة بانية فاعلة في مجتمعها. فإنصاف المرأة كان من أولويات الرسالة النبوية الشريفة، وتحرير إرادتها من قيود الظلم والاستهانة لطلب وجه الله تعالى وبلوغ المقامات العلى عنده كان في صدارة المشروع الكوني الذي جاء به ديننا الحنيف.
وهكذا، ونتيجة للتربية المحمدية الرحيمة على مراقبة الله تعالى والإذعان لأمره، تحول الصحابة من رجال يئدون بناتهم ولا يعدون للنساء أمرا، إلى رجال يثقون في قدرات المرأة، ويسمعون نصيحتها، كما كان سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.
ونتيجة لهذه التربية أيضا، كانت الصحابيات الجليلات قمرا ينير الحَلَك وشمسا تضيء الطريق. كانت حياتهن اقتحاما وجهادا لإعزاز كلمة الله فتركن بصمات واضحة في تاريخ المسلمين. ما كن ذلك الكائن الساكن الساكت الذي يمر من الحياة كأن لم يمر منها، الكائن الذي أصبحته المرأة اليوم بل أصبحه الرجال.
أما آن لنا أن نحيي نموذج الصحابيات بل نموذج المجتمع النبوي، ونحمل رجالا ونساء همَّ أمتنا، ونضع أيدينا في أيدي بعض لننهض بها من الحضيض ونسمو بها فتعود خير أمة أخرجت للناس، نستجدي بذلك رحمة الله ونبتغي رضاه، إذ يقول الله عز وجل:المومنون والمومنات بعضهم أولياء بعض. يامرون بالمعروف وينهون عن المنكر. ويقيمون الصلاة ويوتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله. أولئك سيرحمهم الله. إن الله عزيز حكيم 16
[2] الآية 90
[3] الأنعام الآيتان 162-163.
[4] الإسراء الآية 23،
[5] البقرة الآية 83.
[6] النساء الآيتان95-96.
[7] رواه الحاكم في المستدرك عن ابن مسعود رضي الله عنه
[8] التوبة الآية 71.
[9] الآية 58
[10] الآية 90
[11] الأنعام الآيتان 162-163.
[12] الإسراء الآية 23،
[13] البقرة الآية 83.
[14] النساء الآيتان95-96.
[15] رواه الحاكم في المستدرك عن ابن مسعود رضي الله عنه
[16] التوبة الآية 71.