الأمومة وصناعة الأجيال

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال :“يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي ؟ قال : أمك، قال ثم من؟ قال : أمك، قال ثم من؟ قال : أمك، قال ثم من؟ قال : أبوك” 8 أوصى الحبيب المعلم صلى الله عليه وسلم بصحبة الأم وأكد عليها لكن لماذا يا ترى هذه العناية النبوية الربانية بالأم ؟ وكيف تتحقق صحبتها ؟ ومتى تصير الأمومة فعلا وحقا صحبة دالة على الحق صانعة للإنسان ؟
الأمومة
تحمل المرأة وتضع، وترضع وتغذي الجسم… كل هذه أعمال يجازي عنها الله عز وجل ويجزل ثوابها كلما حضرت النية وعظمت. لكن المرأة لا ترقى لمقام الأمومة إن أهملت ولدها ولم تحرص على تغذية روحه وتربيته، حتى يعرف خالقه ويفهم رسالته في الأرض.
إن الفرق شاسع بين الأم والوالدة، فإن كانت هذه الأخيرة تضع الأجسام وترعاها فحسب فإن الأولى تتولى رعاية الأرواح والأجسام معا، كان النشء من صلبها أم لم يكن. دور الأم تربية الولد ليحيى عابدا لله صالحا مصلحا، وهذا ما رفعها إلى مقام القداسة حيث ذكرها الله عز وجل في كتابه العزيز حين قال تعالى:ووصينا الإنسان بوالديه حسنا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا 9
إن الأم تربي الذرية وتلقنها أمانة الإيمان برفق ورحمة وحنان، فتؤدي بذلك وظيفة محورية في المجتمع بدونها تنفصم عراه ويستأصل معنى الإنسانية منه.
شروط لأداء المهمة
روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :“ما من مولود إلا يولد على الفطرة، ثم يقول اقرؤوا : “فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيموزاد البخاري في روايته : “فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء”وعند مسلم:“فهل تجدون فيها من جدعاء حتى تكونوا أنتم من تجدعونها”يشرف الله سبحانه وتعالى الزوجان بالأبوة والأمومة، كلاهما يرعى ويحفظ الفطرة المولودة على ملة الإسلام حتى لا ترتد عن أصلها، أو تصير سائمة لا قيمة لها في ميزان الدنيا والآخرة، غثاء من الغثاء، كما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف :“يوشك أن تداعى الأمم عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل : ومن قلة يومئذ؟ قال : بل أنتم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن في قلوبكم الوهن. فقال قائل : يا رسول الله وما الوهن؟ قال حب الدنيا وكراهية الموت” 10 لاريب أن وظيفة الأم في عملية تربية الولد عميقة الأثر، فهي التي ترعاه وتعلمه وتجيب عن أسئلته منذ الصبا. وفاعلية الأمومة وقوتها مرتبطتان بقوة إيمانها بالله عز وجل وبتحرير إرادتها وتمام علمها بما لها وما عليها. تخاف المرأة ربها إن فرطت في واجبها وترجو وجهه الكريم فتنبري لإتقان وظيفتها.
كما تقوى الأمومة بمساهمتها في مشروع التغيير، تفهم الواقع وتتعلم ترتيب الأولويات ووضع الأهداف وحسن استعمال الوسائل، لتخريج أجيال ذات رسالة وفاعلية في الأمة. تتعاون مع من تحمل همّ أمتها من صويحباتها على مغالبة العقبات وإن كثرت الجبهات.
ومن تمام قوة الولد استقرار في الأسرة ومخالقة في البيت يعمل على ترسيخهما المرأة والرجل، بعشرة زوجية كريمة قوامها المحبة والمودة وطلب رضا الله عز وجل. جاء في الأثر:المودة بين الآباء قرابة بين الأبناء)فكلما أكرمت الأم أمام أعين ولدها كلما قويت نفسيته وكان فاعلا مؤثرا في المجتمع. أما إن كان الزوج من طينة لا تعرف للكرم فضلا، ولا للرحمة سبيلا، يعنف على زوجه قولا وفعلا، فذاك مما يحطم آمال الولد وينشئه آدميا بإرادة الأرانب لا إنسانا قويا سويا.
تربية الأجيال
إن تربية النشىء عملية شاقة في واقع موبوء، سماته وسط عائلي تتجاذبه عقليات عتيقة وأخرى مفرطة في التحرر، ومدرسة ومعهد وجامعة لا نكاد نجد فيها أدنى مقومات العملية التربوية، وشارع محموم بالعنف والفقر والميوعة والإعلام المضلل. في مثل هذه الظروف تصير التربية تتبع للماء من نبعه لكيلا يتكدر) 11 ويمسي بناء الأجيال عملية جادة تتطلب من الأمهات والآباء وقتا وصبرا وجهدا. هكذا تكون الأمومة مطالبة بالتصدي لجبهات كثيرة أهمها:
1. الكياسة والرفق والمداراة لتثبيت عش الزوجية وتهييىء الوسط الذي تغرس فيه بذرة الإيمان.
2. تعليم الولد بالحال والمقال معاني حب الله ورسوله وخدمة الأمة منذ نعومة أظفاره.
3. تخليقه بالأدب الرفيع والذوق واللياقة بصبر وطول نفس حتى تقوى إرادته على تمثل خصال الخير، مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم :“ما نحل والد ولدا من نحل أفضل من أدب حسن” 12
4. التعاون مع المعلمين والمعلمات علىتوجيه العبقريات المتبرعمة والمواهب الكامنة التي تكتشفها المراقبة الحنون كما يراقب الزرع الغمام سنة القحط) 13
5. الرعاية الحانية والإرشاد الدؤوب حتى يشتد العود وتنضج ثمار التربية، فيصير للولد من القوة والصلاح والفاعلية ما يفرح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يثقل ميزان أبويه يوم العرض على الله عزوجل، إذ هو من عملهما، قال صلى الله عليه وسلم عن أبي هريرة : “إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له” 14
ومع كل هذا لا بد أن تستحضر الأم واجب مشاركتها في تنمية المجتمع لكن مع التماس الحكمة في مراعاة الأولويات وحسن ترتيبها، فالتنمية التي تجعل الأم فى خدمة الآلة بدل خدمة طفلها الرضيع ورعايته وترمي به في أحضان أجيرة بئيسة لتنشئه معلولا نفسيا تنميةٌ مادية قاصرة متجاهلة لأعمق ما في الإنسان إذ عاطفة الحب والرحمة إحدى أسس بناء العمران البشري الإسلامي.
إن ربط الأجيال بربها عز وجل ومستقبل الأمة يتوقف عليه نهوضنا من النكسة التاريخبة التي نحياها، وللأمومة الجبهة الأمامية في عملية الإنقاذ المتمثلة في بناء الإنسان الفاعل الذي يعبد ربه رجاء وجهه سبحانه ويساهم في عزة أمة خير الورى. وإنها لمهمات مثل الجبال يسخر الله لها من اصطفى من النساء والرجال، ينذرون أنفسهم لإحياء القلوب وبناء الإرادات وصناعة الأجيال.
[2] الأحقاف الآية14
[3] حديث صحيح أخرجه الإمام أحمد وأبو داود عن ثوبان رضي الله عنه
[4] تنوير المؤمنات ص 130
[5] حديث مرسل رواه الترمذي عن سعيد بن العاص.
[6] تنوير المؤمنات ص255
[7] رواه مسلم.
[8] رواه مسلم.
[9] الأحقاف الآية14
[10] حديث صحيح أخرجه الإمام أحمد وأبو داود عن ثوبان رضي الله عنه
[11] تنوير المؤمنات ص 130
[12] حديث مرسل رواه الترمذي عن سعيد بن العاص.
[13] تنوير المؤمنات ص255
[14] رواه مسلم.