إني أخطبك إلى نفسك في الآخرة…

لقد اعتبر الإسلام الأسرة قلعة من قلاع العقيدة، لذلك عمل على تحصينها وحمايتها حتى لا تتسرب إليها أيادي التخريب والتمزيق. فوضع لها الركائز المنيعة لدوام ترابطها والأسس القوية لضمان استقرارها.
كما حرص الإسلام على وضع الأسرة في بوثقة تذوب فيها الأنانية والقسوة، وينصهر فيها الغيض والكدر. فأعطى العناية الكاملة للزوجين، اللبنة الأولى في صرح الأسرة، فرسم صورة جميلة ورحيمة للحياة الزوجية في كثير من آيات القرآن الكريم، منها قوله تعالى :هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها 11
الحياة الطيبة
قال الله تعالى:من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون 12 المرأة والرجل مناديان في القرآن الكريم للعمل الصالح إن هما أرادا أن يحييا حياة هنيئة في الدنيا والآخرة. هما مدعوان إلى التعاقد مع الله سبحانه وتعالى، فيعلنان توبتهما الصادقة ويتخليان عن كل مظاهر الأنانية، ويتحرران من كل قيود النفس والهوى، مدركين حق الإدراك أن دينهما مراتب عليهما أن يرتقيا في درجات الآخرة، وأن الدنيا ما هي إلا قنطرة عبور إلى الدار الأخرى، دار البقاء والخلود. يقول الأستاذ عبد السلام ياسين:طابت حياته وحياتها هنا لما يتقنان من أنها عبور إلى دار البقاء، فيأخذان نصيبهما من نعمة الدنيا دون أن يستعجلا ما هو من شان الآخرة : النعيم المقيم.وباليقين المسبق والجزاء المحقق تطيب آخرتهما) 13
وجعلنا بينكم مودة ورحمة
الزواج ليس فقط عقدا بين ذكر وأنثى لإرضاء الغريزة الراسخة في الإنسان وحسب، وإنما هو ميثاق غليظ وعهد وطيد، بهذا وصفه الله عز وجل في مواضع كثيرة من القرآن الكريم. فتارة نجد الله سبحانه يخبر الزوجين بحقيقة تكاملهما ، فالمرأة انفصلت عن الرجل وبالتالي هو الأصل وهي جزء منه، ولاغنى لأحد عن أصله ولا عن جزء منه. فهما خلقا من نفس واحدة مما يخول لهما العيش في وئام وحب ومودة، ونقرأ هذا في قوله تعالى:هن لباس لكم وانتن لباس لهن 14 وتارة نجده سبحانه وتعالى يحبب بعضهما لبعض بذكر مزايا الزواج وغاياته، وما ينتظرهما من الجزاء الوفير إن هما أحسنا لبعضهما وأقاما شرع الله في علاقتهما وحافظا على حقوقهما كاملة تجاه ربهما أولا وتجاه بعضهما ثانيا. فيقول سبحانه:ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة 15 كما جعل المولى سبحانه وتعالى نجاح الزوجين في وظيفتهما وضمان استقرار أسرتهما رهينا بمدى إشعاع الرحمة والمودة بينهما، وحرصهما على التشبع بمعاني الوفاء والإخلاص، والحياء والحشمة. يقول الأستاذ عبد السلام ياسين :بالمودة والرحمة الحميمين يتميز الزواج المطابق بالقصد والفعل والتوفيق الإلهي للفطرة. وبهما لا بمجرد العقد القانوني يحصل الاستقرار في البيت ) 16
المرأة مقدمة مجلية
“الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة “هذا ما قاله الحبيب المصطفى عليه أفضل الصلوات والتسليم. ولبلوغ مرتبة الصلاح والوصول إلى مقام الطاهرات، فما عليك أختي سوى مخاطبة فطرتك وإنعاش إيمانك الذي هو عصمة أمرك، وإن تعلمي أن أول ما عليك أن تبتدئي به هو إعلان توبتك ومبايعة ربك على محبته وطاعته، وتستجيبي لندائه سبحانه حيث قال:الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم.فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله 17 فالرجل إذن مسئول عن رعيته يربيها ويطعمها ويكسوها، ويقيها نارا وقودها الناس والحجارة.والمرأة حافظة لغيب الرجل، تقوم برعاية أسرتها، إعدادا للمستقبل وصيانة للأمة.
تسعى الزوجة الصالحة إلى تمتين أركان البيت المسلم الذي ينظر فيه الزوج إليها فتسره بجمال نفسها وكمال خلقها، وإذا أمرها أطاعته امتثالا لأمر الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا غاب عنها صانته في ماله وعرضه.
كما شرفها الله عز وجل وجعل بحفظ الفطرة، الاستقامة الأصلية على الدين، من صميم مهامها ولقد تعهد الله سبحانه بحفظها منذ أجيال مضت عن طريق الأمومة، ينمو الطفل ويحبو نحو الرجولة وله من حكي أمه البسيط وحديثها عن حقيقة وجود الله وخبر الآخرة ذخيرة منها يبني نفسه.يقول الأستاذ عبد السلام ياسين :نكبة ورقدة في الفطرة لا يمكن ان ينبري لها بقومة محيية مقومة إلا أمهات صالحات قائمات بوظيفتهن الحافظية كاملة غير منقوصة) 18
الرفيق الأبدي
قالت أم زرع تذكر محاسن أبي زرع :زوجي أبو زرع، فما أبو زرع أناس حلي أذني )(جعل في أذني قرطة تتحرك)،وملا من شحمي عضدي، وبجحني فبجحت إلي نفسي)(فرحني بنفسي من كثرة إحسانه إلي).وجدني في أهل غنيمة بشق)(أهل غنم قليلة ترعى بمكان شاق)،فجعلني في أهل صهيل وأطيط )(الصهيل صوت الخيل والأطيط صوت الإبل)،ودائس ومنق )(أي خدم يدرسون الزرع المحصود وينقونه). فعنده أقول ولا أقبح، وأرقد فأتصبح)(لايكرهها أحد على القيام من نومها للخدمة)، وأشرب فأتقنح )أي أشرب كفايتي وفوق كفايتي).سيدنا أبو زرع عمق المودة الزوجية، وامتثل لوصية الحبيب المصطفى أصدق امتثال.فكان بزوجته رفيقا و في رعاية نفسيتها دقيقا.فتفنن في أساليب دلالها، وأبدع في صور ملاطفتها.فرضي عنها ورضيت عنه،فابتهجت روحها واطمأنت نفسها،فامتلأ بيتهما سعادة وغبطة.
صورة جميلة ونموذج رفيع من ملاطفة الزوج ومداراته، المداراة من ملطفات الحياة الزوجية بل من أساسياتها.ونعني به السياسة التي تراعى فيها نفسية المرأة وأنها تختلف عن الرجل في طريقة تفكيره وأسلوب تصنيف أولوياته.يقول الأستاذ عبد السلام ياسين:إن القوامة التي فرضها الله على الزوج هي أخت الحافظية التي فرضها على الزوج الأخر أمانة ومسؤولية، تثقل مسؤوليتها، ليست تخففه، الدرجة التي جعلها الله للرجل ليقود السفينة بحنكة ودراية ومداراة) 19 واختم همستي في أذن الأزواج بكلام نفيس لأم الدرداء الصغرى، تابعية جليلة تزوجها سيدنا أبو الدرداء بعد وفاة أم الدرداء الكبرى:
عن جبير بن نفير عن أم الدرداء أنها قالت لأبي الدرداء:إنك خطبتني إلى أبوي في الدنيا فأنكحوني وإني أخطبك إلى نفسك في الآخرة. قال:فلا تنكحي بعدي)فخطبها معاوية، فأخبرته بالذي كان، فقال لها:عليك بالصيام) 20
أي سعادة عاشتها سيدتنا أم الدرداء صحبة سيدنا أبي الدرداء حتى اختارته رفيقا أبديا؟
أي سكينة رفرفت فوق بيتهما، وأي مودة جمعت بينهما حتى تمنيا دوام زواجهما في الآخرة؟
أي إحسان نبعت منه روحهما حتى حولا حياتهما جنة أبدية ونعيما مقيما؟
أترك لك أخي القارئ، أختي القارئة لذة التأمل في الحديثين معا، لتكتشفا خبايا العشرة الزوجية تحت ظلال السنة النبوية، وتصلا إلى أسرار السعادة الدنيوية الموصلة إلى حياة طيبة أبدية في الآخرة بإذن الله العلي القدير.
[2] سورة النحل الآية97
[3] الأستاذ عبد السلام ياسين كتاب العدل ص285.
[4] البقرة الآية187.
[5] سورة البقرة الآية228
[6] الأستاذ عبد السلام كتاب العدل ص297.
[7] النساء الآية34.
[8] الأستاذ عبد السلام كتاب العدل ص304.
[9] الأستاذ عبد السلام كتاب تنوير المؤمنات ج2ص195.
[10] الاصابةج7ص630.
[11] سورة الأعراف الآية189
[12] سورة النحل الآية97
[13] الأستاذ عبد السلام ياسين كتاب العدل ص285.
[14] البقرة الآية187.
[15] سورة البقرة الآية228
[16] الأستاذ عبد السلام كتاب العدل ص297.
[17] النساء الآية34.
[18] الأستاذ عبد السلام كتاب العدل ص304.
[19] الأستاذ عبد السلام كتاب تنوير المؤمنات ج2ص195.
[20] الاصابةج7ص630.