أنعم بحياة هنية

ﺇنه الشيء الذي يسعد به اﻹنسان ولو فقد كل شيء، وإذا فقده فلن يستطيع أن تشتريه بمال الدنيا كلها، ولو اجتمعت هذه الحضارة المتقدمة صناعة على أن تصنعه ما استطاعت لذلك سبيلا، إنه اطمئنان النفس وسكينتها. فكيف السبيل إلى هذه النعمة الكبرى في عالم موار يصول ويجول وسط الشهوات والغفلات؟
بلسم ودواء
أوجد الله عز وجل هذا الإنسان، وأنزله إلى أرض الكدح والتدافع والابتلاءات، وهو المنان الرؤوف لم يتركه سدى بل أرسل إليه رسلا، وقدر عليه أرزاقا، وجعل له منهاجا إن خرج عنه كان الانحراف والضلال، يقول الله عزوجل :ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى 6 يقول سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : ضنكا أي شقاء)والضنك من المنازل والأماكن والمعايش هو الشديد والضيق. الحياة في ﻫذا الكوكب دون تعاليم رب العزة موحِشة، وكأنك في غابة مخيفة تحيط بك المخاطر من كل حدب وصوب، لأن الإنسان مهما تنعم ظاهره، لبس ما شاء وأكل ما شاء وسكن حيث شاء، فإن قلبه يظل ضيقا منقبضا ما دام مُعرِضا صادّا عن منهاج الله ، حتى إذا أصابه من الدنيا ما يكره فهو في تعاسة يتردد، وفي قلق يتحسر ويجزع . ولا يهنأ له بال ولا تطمئن له نفس، ﺇلا ﺑذكر الله. فاﻟذكر نعمة عظمى ومنة كبرى، لا يعرف قيمته ﺇلا من واظب عليه، فهو الحصن الحصين والدرع الواقي من كل المخاطر. سئل الإمام علي كرم الله وجهه : ما أعظم جنود الله ؟ قال : نظرت ﺇلى الحديد فوجدته أعظم جنود الله، ثم نظرت إلى النار فوجدتها تذيب الحديد، فقلت النار أعظم جنود الله، ثم نظرت إلى الماء فوجدته يطفئ النار، فقلت الماء أعظم جنود الله ثم نظرت إلى السحاب فوجدته يحمل الماء، فقلت السحاب أعظم جنود الله، ثم نظرت ﺇلى الهواء فوجدته يسوق السحاب، فقلت الهواء أعظم جنود الله، ثم نظرت إلى الجبال فوجدتها تعترض الهواء، فقلت الجبال أعظم جنود الله، ثم نظرت إلى اﻹنسان فوجدته يقف على الجبال وينحتها فقلت الانسان أعظم جنود الله، ثم نظرت إلى مايُقْعد اﻹنسان فوجدته النوم فقلت النوم أعظم جنود الله، ثم وجدت أن ما يذهب النوم فوجدته الهم والغم فقلت الهم والغم أعظم جنود الله، ثم نظرت فوجدت أن الهم والغم محلهما القلب، فقلت القلب أعظم جنود الله ووجدت هذا القلب لا يطمئن ﺇلا بذكر الله. فقلت أعظم جنود الله ذكر اللهالذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب 7
أمر المؤمن كله خير
اطمئنان قلب المؤمن وعدم جزعه، وتحسره على ما يجري عليه من أقدار الله تعالى يَمْعَنُ معينَه من ذكر الله تعالى والرضا به ربا، واثقا بأن ما في يد الله خير مما يجمع فلا ييأس لحصول مكروه أو فوات محبوب، فكل ذلك بقدر الله تعالى وما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه. فما من حادث يحدث في حياة المؤمن ﺇلا وهو جميل، جميل في ذاته أو بنتائجه التي يفضي إليها. عن سيدنا أبي يحيى صهيب بن سنان رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:“عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير وليس ذلك إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له” 8
المؤمن يستمد صبره من يقينه بأن الله الحنان المنان أحبه فخلقه، وأنه أرحم به من أمه التي ولدته بل رحمة أمه به من تجليات الرحمة اﻹلهية الكبرى. ومن شدة حب الله لعباده أنه أحيانا يبتليهم بما يكرهون ليرفع مقامهم عنده، وليختبر مدى حبهم له قال الرسول صلى الله عليه وسلم :“ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب ﺇليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه ﺇلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن ﯿﻗذف في النار” 9 . لن ينال المرء حلاوة الإيمان ﺇلا ﺇذ استسلم وخضع لما قدر له المنعم حتى ولو كان يتعارض ومصالحه الشخصية فيما يبدو له، فاختبار الله عز وجل له يتطلب مجاهدة النفس ومكابدتها، ليغدق عليه المولى من فيض خيراته. قال الله تعالى :اﻟذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وﺇن الله لمع المحسنين 10
واسطة خير
لا قيمة لمتاع الدنيا في قلب المؤمن اﻟذي علم أنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، فلا يقيم لها وزنا إلامن حيث كون العمل والعبادة فيها واسطة لنيل خير الآخرة، ولَموضع سوط في الجنة يا نفس خيرلك من الدنيا وما فيها. فَقِه الصحابة رضوان الله تعالى عليهم على يد المعلم المربي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى، فقال سيدنا ربعي بن عامر رضي الله عنه لقائد جيوش كسرى : نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل اﻹسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة)إذا رسخت هذه المعاني في قلب المؤمن لم يبال في بَرّ كان أو في بحر أوفي سهل أوفي جبل، تستوي عنده حالة الصبر وحالة الشكر مادام في كلتا الحالتين يعبد ربه. وفي هذا أنشد الإمام الشافعي رحمه الله :
دع الأيام تفعل ما تشاء***وطب نفسا ﺇذا حكم القضاء
ولا تجزعن لحوادث الليالي***فما لحوادث الليل بقاء