أم أيمن المربية

نلتقي اليوم مع القارئ في أحضان المدرسة النبوية، نجلس إلى منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم لنقتبس من عبقه أريجا ما أحوجنا إليه في عالم غزته الماديات وابتعد عن القيم والمثل التي تحفظ استقرار المجتمعات. نستمع لرسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم وهو يقول:“إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له” 2 الولد عمل إذا، والعمل إما فاسد أو صالح، والعمل الصالح الخالص الصحيح يرفع صاحبه إلى مصاف الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء، فكيف بالولد إن كان محمدا؟ وبالعمل إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم؟، أي تكريم نالته الأمة الضعيفة المستضعفة ” بركة أم أيمن ” التي ساقتها عناية الله عز وجل لتكون يدا يتنزل بها قدر الله، فتحضن من الناس خيارهم “رسول الله”.
أم أيمن والاصطفاء الإلهي
الاصطفاء نال هذه السيدة الجليلة التي حظيت بهذا الشرف ونالت هذا التكريم، وأحرزت هذا الفضل. ربت وحضنت وتعهدت هذه النبتة الطيبة حتى أينعت واخضرت وازدانت… شرف امتد إلى ما بعد البعثة، حيث كانت على موعد ثان مع قدر الله لما آمنت بالله واستقر في قلبها حبه وغدا حاديها طلب وجهه الكريم،هاجرت وحيدة إلى المدينة المنورة، فارة بدينها قابضة عليه، قطعت الفيافي وهي صائمة لا ماء ولا زاد، ولما اشتد بها العطش رفعت رأسها مستغيثة بمولاها وتمتمت في حياء ، فنزل دلو من السماء شربت حتى ارتوت شربة هنيئة شافية كافية لا ظمأ بعدها.
حق لها وهي من قال عنها سيد ولد آدم صلوات الله عليه وسلامه عليه “هذه بقية أهلي”وقال أيضا:“هي أمي بعد أمي”ياله من تعظيم وتكريم ورحمة، ويا له من شرف تقاسمته مع السيدة آمنة، التي كانت أصل البذرة الطيبة، فكانت أم أيمن منبتا للشجرة الطيبة.
بشراك يا من حرمت نعمة الإنجاب
لم تكن سيدتنا أم أيمن الوالدة، وإنما أنزلها منزلة الأم احتضانها ورعايتها وخدمتها للحبيب صلى الله عليه وسلم، وهذه بشارة ودعوة… بشارة لكل من حرمت الإنجاب فالفرصة لتكون منبتا للشجر الطيب لم تفت، ودعوة لكل من أرادت أن تستكثر من الخيرات.
شرف الأمومة ليس حكرا على الوالدة فقط، بل لكل من ربت وحضنت وتعهدت وصبرت وسهرت، كي تصلح الزرع، فكم من والدة اكتفت بكونها معبرا لبروز الذرية فقط…
تأتيك فرصة أختي، لتحظي بعمل صالح يكون رزقا وذخرا يوم القيامة،فرصتك في المدارس والمعاهد والحي وفي كل مكان، يبسط سبحانه الأرزاق فتمرين دون أن تلتقطيها ولعلها سبب اصطفائك، وسبب فلاحك. ولنا في السيدة الجليلة أم أيمن خير أسوة. منا من يرفعه علمه ومنا من يرفعه عمله، فهذه السمراء عسراء اللسان رفعها عملها (من ربت)، فكان بها في الدنيا رحيما عطوفا لطيفا، كان يبسط معها ويقول صلى الله عليه وسلم : “سأحملك على ابن الناقة، فتقول لا أريد ابن الناقة، فيقول لن أحملك إلا على ابن الناقة يا أمه”وهو يعني الجمل فهو ابن الناقة، كانت ترفع صوتها دلالا على الابن البار ويخفض لها صلى الله عليه وسلم الجناح ،لنعلم كيف كان إكرام الأمومة وإجلالها حاضرا في تعليم رسول الله صلى الله عليه وسلم، للأمة.
أم أيمن مدرسة الأمومة والهمة والصبر
أم أيمن، زوجها النبي صلى الله عليه وسلم من زيد بن الحارث رضي الله عنه بعد وفاة زوجها الأول شهيدا ،لتلد أسامة بن زيد ،الحب ابن الحب . أي ثقة وضعها فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعقد له لواء المسلمين وهو لم يتجاوز الستة عشر ربيعا ،على رأس فريق من الصحابة الأجلاء، هم أكبر منه سنا . كيف لا ومن ربته أم مدرسة، جمعت بين وظيفتها الأمومية وجهادها الحركي وإعدادها للقوة، للتغيير التاريخي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
شاركت في الغزوات جنبا إلى جنب مع كبار الصحابة وكان لها موقف يحسب لها في غزوة أحد حيث كانت تحثو التراب في وجه الفارين لهول المعركة وتقول لأحدهم :هاك المغزل وهات السيف)مخاطبة نخوتهم وليس استخفافا بالمغزل.
وشرف الرواية وسام فخر على الصدر
كانت تجالس النبي صلى الله عليه وسلم وتخزن في ذاكرتها ما تلتقطه من درر لتروي عنه صلى الله عليه وسلم،إلى أن روى عنها أنس والصنعاني والمدني.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه:أن أم أيمن بكت حين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل لها: أتبكين؟ قالت والله، لقد علمت أنه سيموت، ولكنني إنما أبكي على الوحي إذ انقطع من السماء… )أم صابرة متيقنة أن ما عند الله خير لرسول الله ، لكنها تعلم أنه كان أمنتهم ورحمتهم وموجههم ومعلمهم ، هي تبكي إشفاقا على الأمة ، وفيه إشارة خفية لتعلقها بالنبي صلى الله عليه وسلم مصدر الوحي، فما صبرت عليه،حتى لحقته بعد خمسة أو ستة أشهر من وفاته صلى الله عليه وسلم.
لله ذرك يا أم أيمن، يا بركة بيت النبوة، وهنيئا لك المنزلة العالية التي وضعك فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكرمك بها في الدنيا، و بالغرفة التي أنزلك بها رب العزة في الآخرة، ألحقنا الله بك وجعلنا معك.
[2] رواه مسلم وأصحاب السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه.