في وداع شهر رمضان (22)

2006/10/22
رؤي بعض العارفين ليلة عيد في فلاة يبكي على نفسه وينشد :بحرمة غربتي كم ذا الصدود***ألا تعطف على ألا تجــود
سرور العيد قد عم النواحـي***وحزني في ازدياد لا يبيــد
فإن اقترفت خلال ســـوء***فعذري في الهوى أن لا أعود
لما كانت المغفرة والعتق كل منهما مرتباً على صيام رمضان وقيامه أمر الله سبحانه وتعالى عند إكمال العدة بتكبيره وشكره فقال:ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرونفشكر من أنعم على عباده بتوفيقهم للصيام وإعانتهم عليه ومغفرته لهم وعتقهم من النار أن يذكروه ويشكروه ويتقوه حق تقاته. وقد فسر ابن مسعود رضي الله عنه تقواه حق تقاته بأن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر، فيا أرباب الذنوب العظيمة الغنيمة الغنيمة في هذه الأيام الكريمة فما منها عوض ولا لها قيمة، فمن يعتق فيها من النار فقد فاز بالجائزة العظيمة، والمنحة الجسيمة. يا من أعتقه مولاه من النار إياك أن تعود بعد أن صرت حراً إلى رق الأوزار، أيبعدك مولاك من النار وتتقرب منها، وينقذك منها وأنت توقع نفسك فيها ولا تحيد عنها.وإن امرءاً ينجو من النار بعدما***تزود من أعمالها لسعيـــد
إن كانت الرحمة للمحسنين فالمسيء لا ييأس منها، وإن تكن المغفرة مكتوبة للمتقين فالظالم لنفسه غير محجوب عنها.
غيره:إن كان عفوك لا يرجوه ذو خطأ***فمن يجود على العاصين بالكرمغيره:إن كان لا يرجوك إلا محســن***فمن الذي يرجو ويدعو المذنب
لم لا يرجى العفو من ربنا وكيف لا يطمع في حلمه. وفي الصحيح: أنه بعبده أرحم من أمه:قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا
فيا أيها العاصي وكلنا ذلك لا تقنط من رحمة الله بسوء أعمالك، فكم يعتق من النار في هذه الأيام من أمثالك، فأحسن الظن بمولاك وتب إليه فإنه لا يهلك على الله هالك.إذا أوجعتك الذنوب فداوهــا***برفع يد بالليل والليل مظـلم
ولا تقنطن من رحمة الله إنما***قنوطك منها من ذنوبك أعظم
فرحمته للمحسنين كرامــة***ورحمته للمذنبين تكــــرمينبغي لمن يرجو العتق في شهر رمضان من النار أن يأتي بأسباب توجب العتق من النار، وهي متيسرة في هذا الشهر، وكان أبو قلابة يعتق في آخر الشهر جارية حسناء مزينة يرجو بعتقها العتق من النار. وفي حديث سلمان الفارسي المرفوع الذي في صحيح ابن خزيمة:“من فطر صائماً كان عتقاً له من النار، ومن خفف فيه عن مملوكه كان له عتقاً من النار”
وفيه أيضاً: “فاستكثروا فيه من أربع خصال: خصلتين: ترضون بها ربكم، وخصلتين: لا غناء لكم عنهما، فأما الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم: شهادة أن لا إله إلا الله والاستغفار، وأما اللتان لا غناء لكم عنهما: فتسألون الله الجنة وتستعيذون به من النار”فهذه الخصال الأربعة المذكورة في الحديث كل منها سبب العتق والمغفرة: فأما كلمة التوحيد: فإنها تهدم الذنوب وتمحوها محواً ولا تبقي ذنباً ولا يسبقها عمل، وهي تعدل عتق الرقاب الذي يوجب العتق من النار، ومن أتى بها أربع مرار حين يصبح وحين يمسي أعتقه الله من النار، ومن قالها مخلصاً من قلبه حرمه الله على النار، وأما كلمة الاستغفار: فمن أعظم أسباب المغفرة، فإن الاستغفار دعاء بالمغفرة ودعاء الصائم مستجاب في حال صيامه وعند فطره. وقد سبق حديث أبي هريرة المرفوع:“يغفر فيه ـ يعني شهر رمضان ـ إلا لمن أبى، قالوا: يا أبا هريرة ومن أبى؟ قال: من أبى أن يستغفر الله عز وجل”
قال الحسن:أكثروا من الاستغفار فإنكم لا تدرون متى تنزل الرحمة.)وقال لقمان لابنه:يا بني عود لسانك الاستغفار فإن لله ساعات لا يرد فيهن سائلاً وقد جمع الله بين التوحيد والاستغفار في قوله تعالى:)فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبكوفي بعض الآثار: أن إبليس قال: أهلكت الناس بالذنوب وأهلكوني بلا إله إلا الله، والاستغفار.
والاستغفار ختام الأعمال الصالحة كلها فيختم به الصلاة والحج وقيام الليل، ويختم به المجالس فإن كانت ذكراً كان كالطابع عليها، وإن كانت لغواً كان كفارة لها، فكذلك ينبغي أن تختم صيام رمضان بالاستغفار. وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الأمصار يأمرهم بختم رمضان بالاستغفار وصدقة الفطر، فإن الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، والاستغفار يرقع ما تخرق من الصيام باللغو والرفث. ولهذا قال بعض العلماء المتقدمين: إن صدقة الفطر للصائم كسجدتي السهو للصلاة. وقال عمر بن عبد العزيز في كتابه قولوا كما قال أبوكم آدم:)ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرينوقولوا كما قال نوح عليه السلام:)وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرينوقولوا كما قال موسى عليه السلام:)رب إني ظلمت نفسي فاغفر ليوقولوا كما قال ذو النون عليه السلام:)سبحانك إني كنت من الظالمين
ويروى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:الغيبة تخرق الصيام والاستغفار يرقعه، فمن استطاع منكم أن يجيء بصوم مرقع فليفعل)وعن ابن المنكدر معنى ذلك:الصيام جنة من النار ما لم يخرقها، والكلام السيئ يخرق هذه الجنة، والاستغفار يرقع ما تخرق منها. فصيامنا هذا يحتاج إلى استغفار نافع، وعمل صالح له شافع. كم نخرق صيامنا بسهام الكلام ثم نرقعه وقد اتسع الخرق على الراقع، كم نرفو خروقه بمخيط الحسنات ثم نقطعه بحسام السيئات القاطع. كان بعض السلف إذا صلى صلاة استغفر من تقصيره فيها كما يستغفر المذنب من ذنبه. إذا كان هذا حال المحسنين في عباداتهم فكيف حال المسيئين مثلنا في عباداتهم، ارحموا من حسناته كلها سيئات وطاعاته كلها غفلات.)أستغفر الله من صيامي***طول زماني ومن صلاتي
يـوم يرى كله خـروق***وصلاته أيما صــلاة
مستيقظ في الدجى ولكن***أحسن من يقظتي سنأتي
وقريب من هذا أمر النبي عليه السلام لعائشة رضي الله عنها في ليلة القدر بسؤال العفو. فإن المؤمن يجتهد في شهر رمضان في صيامه وقيامه فإذا قرب فراغه وصادف ليلة القدر لم يسأل الله تعالى إلا العفو كالمسيء المقصر. كان صلة بن أشيم يحي الليل ثم يقول في دعائه عند السحر:اللهم إني أسألك أن تجيرني من النار، ومثلي يجترىء أن يسألك الجنة.)
كان مطرف يقول:اللهم ارض عنا فأن لم ترض عنا فاعف عنا)قال يحيى بن معاذ:ليس بعارف من لم يكن غاية أمله من الله العفو.)إن كنت لا أصلح للقرب***فشأنكم عفو عن الذنب
أنفع الاستغفار ما قارنته التوبة وهي حل عقدة الإصرار، فمن استغفر بلسانه وقلبه على المعصية معقود وعزمه أن يرجع إلى المعاصي بعد الشهر ويعود فصومه عليه مردود وباب القبول عنه مسدود. قال كعب:من صام رمضان وهو يحدث نفسه أنه إذا أفطر بعد رمضان أنه لا يعصي الله دخل الجنة بغير مسألة ولا حساب، ومن صام رمضان وهو يحدث نفسه إذا أفطر بعد رمضان عصى ربه فصيامه عليه مردود.) 2 ولولا التقى ثم النهى خشية الــردى***لعاصيت في وقت الصبا كل واجب
قضى ما قضى فيما مضى ثم لا يرى***له عودة أخرى لليالي الغـــوائبوفي سنن أبي داود وغيره عن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:“لا يقولن أحدكم: صمت رمضان كله، ولا قمت رمضان كله”قال أبو بكرة:فلا أدري أكره التزكية أم لا بد من غفلة.)أين من كان إذا صام صان الصيام، وإذا قام استقام في القيام. أحسنوا الإسلام ثم ارحلوا بسلام ما بقي إلا من إذا صام افتخر بصيامه وصال، وإذا قام عجب بقيامه وقال: كم بين خلى وشجى وواجد وفاقد وكاتم ومبدي. وأما سؤال الجنة والاستعاذة من النار فمن أهم الدعاء، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:“حولها ندندن”
فالصائم يرجى استجابة دعائه فينبغي أن لا يدعو إلا بأهم الأمور قال أبو مسلم:ما عرضت لي دعوة إلا صرفتها إلى الاستعاذة من النار )وقال:لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزونفي الحديث: